البعث

TT

تتوقف على زلازل سوريا تحولات كثيرة في هيكل الأمة السياسي القائم منذ أكثر من نصف قرن. أحدها وأهمها، موقع حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ولد في سوريا، وتطور ويحكم في سوريا والعراق منذ 1973 بفارق شهر واحد. حمل «البعث» اسمي مؤسسيه الرئيسيين: الأستاذ ميشيل عفلق والدكتور صلاح البيطار. وقد صدر على الأول حكم بالإعدام في دمشق واغتيل الثاني في باريس، برصاص مجهول، كما يحدث في الجرائم التي من هذا النوع.

بعد سقوط صدام حسين كان أول قرار اتخذ هو إلغاء «البعث» من الدولة، أو «اجتثاثه» وفق التعابير الآيديولوجية التي أدخلتها الأحزاب العربية، وبينها «البعث» نفسه. وعندما بدأت المطالبة بالإصلاحات في سوريا كان أول المطالب إلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي تجعل من «البعث» قائد الدولة والمجتمع معا.

تجاوزت المحنة في سوريا الآن موضوع الحزب ووضعه. فالحكومة التي يرأسها بعثي وتضم 17 وزيرا من الحزب، لم تعد سوى منظومة إدارية، شكلية السلطة، في حالة الحرب هذه، عبر مدن البلاد وأريافها. ويبدو الحزب نفسه لاعبا ثانويا أيضا، لا صوت له، حتى من قبيل البيانات الصياغية. ولا عاد هناك صوت لذلك الرعيل الذي طرح «البعث» كحلم من أحلام الوحدة الكبرى والعدالة الاجتماعية. فقد تبادل الحزب في بغداد ودمشق أسوأ أنواع العداوات. ولجأ كبار مؤسسيه إلى العراق، في طليعتهم ميشيل عفلق، الذي أصبح في كنف عضو بسيط يدعى صدام حسين. ولم يحسن البعثيون الوحدة في ما بينهم. واختاروا مواجهة الناصرية في عزها. وحاولوا احتكار الحركة القومية، التي تخاطفها المدعون من كل صوب، كما في حالة القذافي. وشتت المناضلون بعضهم البعض في مقاهي بيروت والقاهرة وباريس، أو في السجون والزنزانات المقدمة للقبور. وبدأ أكرم الحوراني، الذي أصبح نائب عبد الناصر أيام الوحدة، مذكراته بيوم طلب إلى سجانه أن يسمح له بالصعود إلى سطح السجن ليلقي نظرة على دمشق، قبل أن يودع زنزانته.

قبلها، كان الحوراني أكثر زعماء سوريا شعبية منذ الاستقلال، وأكثرهم قربى من البسطاء والفلاحين. لكن الحزب الذي بدأ في اللقاءات الفكرية وثقافات المرحلة، انتقل إلى أيدي العسكر، وتحول إلى عقيدة العنف ولغته. ولم تعد الأسماء اللامعة في بغداد ودمشق، أسماء المفكرين والكتاب بل أسماء ضباط الانقلابات وعتاة المخابرات.

وغابت صورة الحلم ورومانسية الوحدة والاشتراكية «وأستذة» عفلق والبيطار وحلت محلها صورة الصراع بلا نهاية بين الرفاق. وعندما انتهى حزب البعث رسميا في العراق لم يبد إطلاقا أن «بعث» سوريا قد فقد جناحا بل ربما غريما. وتلك مرحلة أخرى من عواصف العرب، بدأت نسمة وانتهت في زوبعة.