أولمبياد «لندن 2012» والقمم التجارية العالمية

TT

كان هذا الأسبوع أسبوعا مبهرا هنا في لندن، وقد أمضيت يومين من هذا الأسبوع في القرية الأولمبية، حيث الجو رائع إلى درجة تثير القشعريرة في الجسد، والحاضرون من جميع أنحاء العالم يبتسمون ويستمتعون بحدث كبير. إنها لحظة عظيمة بالنسبة لبريطانيا، فقد توحدت البلاد من أجل تقديم «أعظم عرض على وجه الأرض»، وكان حفل الافتتاح بكل تأكيد مثالا رائعا على الإبداع الذي يعد جزءا هاما من بريطانيا. إلا أن هذه ليست مقالة عن الرياضة، بل عن النشاط التجاري.

لقد كان أول حدث يقام في «سفارة الأعمال البريطانية» التي يقع مقرها في قصر «لانكستر هاوس» هو «قمة الخدمات الإبداعية»، التي تعرض ما تملكه بريطانيا من «صناعات إبداعية» ذات مستوى عالمي، مثل مجالات الإعلان والإعلام والتصميم والهندسة المعمارية. وقد عقدت 3 جلسات تناول كل منها موضوعا معينا وهي: «الإبداع والترويج العالمي»، و«الإبداع والتكنولوجيا الرقمية»، و«الإبداع والابتكار القائم على التصميم»، وركزت هذه الجلسات على إسهام الإبداع في نجاح العمل التجاري. ثم شهد اليوم التالي عقد «قمة المحتوى الإبداعي»، التي تضمنت سلسلة من الجلسات المفيدة حول ما تتمتع به المملكة المتحدة من خبرات في التوظيف التجاري للإبداع في قطاعات الأزياء والسينما والألعاب والموسيقى والنشر والتلفزيون.

وقد ألقت هذه الأحداث الضوء على أهمية علم الاقتصاد السلوكي، وكيف يمكن أن تؤثر الإعلانات على السلوك الجماعي من أجل تحقيق الصالح الأعم، ودور الهندسة المعمارية في التجديد العمراني، وكيف تؤثر البيئة المصممة على الكيفية التي نعيش ونتصرف بها، وكيف يمكن أن يساعد التصميم والابتكار الشركات على المحافظة على الريادة مع الاستمرار في التصرف كمواطنين مؤسسيين صالحين.

ويعد الإبداع من الخصائص التجارية الثابتة والفعالة التي تتمتع بها بريطانيا، والتي قادتها إلى التفوق في كثير من المنتجات والخدمات البريطانية المتميزة. وبينما كانت «قمم الصناعات الإبداعية» تدور حول قطاعات تشمل السينما والنشر والأزياء والإعلان والهندسة المعمارية، فإن الشاهد في هذا هو أن كل المجالات هي مجالات إبداعية، وليس هذه القطاعات «الإبداعية» فحسب، فهناك إبداع في مكنسة «دايسون» الكهربائية أكثر مما في فستان من تصميم ستيلا مكارتني، وهناك إبداع وبراعة في محرك سيارة من طراز جاغوار أو رولزرويس أكثر مما في الإعلانات التي تروج لها، والإبداع والتميز فيما يدور في رؤوس العلماء الذين يعملون على اختراع أدوية وعقاقير جديدة داخل شركة «غلاكسو سميثكلاين» يعادل على أقل تقدير في روعته ما يدور داخل استوديوهاتنا السينمائية، بل وفي بعض الحالات يكون متقدما عليه بمراحل.

إن تطبيق العلوم الذي يتم على نطاق واسع داخل الشركات البريطانية يثير الذهول حقا، فالإبداع ليس قاصرا على ما تراه فوق منصة عرض الأزياء أو على شاشة التلفزيون أو في دار السينما أو داخل أحد المعارض الفنية، بل إن الإبداع البريطاني يكمن في قلب كل ما لدينا من ابتكار ونشاط تجاري يقود اقتصادنا برمته، وهذا الإبداع هو ما سيمكن بريطانيا من تجاوز أوضاع السوق التي تعصف بمعظم الاقتصادات الأخرى.

وقد كان الإبداع دوما جزءا من الموسيقى والأدب والشعر والفن والتصميم، وهو كامن أيضا في الصناعة البريطانية، فقد ظل المخترعون البريطانيون عبر القرون يحظون بالتقدير لإسهامهم في وضع أفكار الكثير من المنتجات، مثل الفرامل القرصية وإسمنت بورتلاند والتعرف على البصمة الوراثية «دي إن إيه» والمحرك الكهربائي والحوامة والمحركات النفاثة والبنسلين والبوليستر والرادار والاستانلس ستيل والمحرك البخاري وشبكة الويب العالمية وطائرة الإقلاع العمودي وجهاز «آي بود» والآلاف من الأشياء التي نستعملها جميعا كل يوم.

وبعد ذلك بثلاثة أيام، عقدت «القمة التجارية العالمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات»، وكانت مناسبة لا تفوت بالنسبة لقادة قطاع التكنولوجيا من شتى بقاع العالم كي يتعرفوا بأنفسهم على الابتكار والإبداع البريطاني ويقيموا علاقات مع الشركات وقادة الصناعة في بريطانيا. وقد شهدت القمة عددا من الحلقات النقاشية التي أدارتها لجنة خاصة وركزت على الجوانب الرئيسية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث تناولت مواضيع مثل «تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المعينة في نقل أولمبياد لندن 2012»، و«تكنولوجيا النطاق العريض»، و«الحوسبة السحابية والبرمجيات كخدمة»، و«الابتكار الرقمي»، و«البنية التحتية الذكية»، و«الفيديو وتمييز الصور والواقع المعزز»، و«القدرة على الحركة في الجيل التالي». وضمت اللجان التي أدارت تلك الحلقات النقاشية ممثلين رفيعي المستوى للشركات والمؤسسات الكبرى، مثل مؤسسات «إيه آر إم» و«بي بي سي» و«بي تي» و«سيسكو» و«سي إس آر» و«هواوي أوروبا» و«آي بي إم» و«إمبريال كوليدج» و«إل أو سي أو جي» و«كوالكوم أوروبا» و«سامسونغ للإلكترونيات بالمملكة المتحدة» و«سوفوس» و«تليفونيكا أو تو المملكة المتحدة».

ومن المقرر أن تعقد «القمة التجارية العالمية للهندسة المتقدمة» يوم 10 أغسطس (آب) 2012، وسوف تقدم لقادة العمل التجاري الدولي معلومات لا تقدر بثمن عن الإمكانات العالمية التي تمتلكها بريطانيا في هذا القطاع مرتفع النمو. وسوف تفتتح القمة بكلمة رئيسية من الوزير، كما ستشهد مشاركة ممثلين رفيعي المستوى لشركات عالمية كبرى مثل «إير باص» و«جاغوار» و«لاند روفر» و«جيه سي بي» و«مكلارين لسباقات السيارات» و«نيسان» و«رولزرويس» و«سيمنز» و«سبيريت إيرو سيستمز» في المناقشات التي تديرها اللجنة المسؤولة عن المؤتمر، وتتناول قدرة المملكة المتحدة كشريك تجاري وباعتبارها المكان الأمثل للاستثمار.

وتشمل «الهندسة المتقدمة» كل ما هو عظيم بشأن التصنيع في بريطانيا، فسواء في هندسة الطيران أو هندسة المحركات أو أي مجال آخر من مجالات الهندسة، تمتلك بريطانيا إمكانات عالمية المستوى في مجال الهندسة المتقدمة، فأجنحة ومحركات الكثير جدا من الطائرات تم تصميمها وتصنيعها في بريطانيا، كما أن قطاع المحركات لدينا يحتل مكانة ريادية في تطوير تقنيات المركبات منخفضة الانبعاثات الكربونية.

وما زالت بريطانيا وسوف تظل دولة إبداعية رائدة، ولهذا تحرص الشركات الصينية والهندية أشد الحرص على شراء حصص في المشاريع البريطانية. كما تعد هذه فرصة هائلة أمام المستثمرين والمصنعين من منطقة الشرق الأوسط؛ أولئك الذين يرغبون في الاستثمار في أكثر التقنيات تقدما.

وقد لعب الابتكار دورا كبيرا في تخطيط برنامج دورة الألعاب الأوليمبية «لندن 2012»، حيث إن مدينة لندن تختلف اختلافا جوهريا عن المدن الأخرى التي تستضيف الألعاب الأوليمبية في أنها خططت للحدث بطريقة معكوسة، فقد كان المفهوم السائد هو التركيز على كيفية استغلال المواقع والإنشاءات فيما بعد وكيفية دمجها في المجتمعات المجاورة لها، أما مقر أولمبياد «لندن 2012» فقد صمم وبني ليكون تراثا للمستقبل، ثم اتفق أن يكون أول حدث يستضيفه هو دورة الألعاب الأولمبية. وكلمة «تراث» تستعمل بأشكال كثيرة فيما يتعلق بتطوير «القرية الأولمبية» في لندن، فمع العلم بأن هذه الألعاب تكون محفزا للتنمية العمرانية والاستثمار في البنية التحتية والتجديد، فقد كانت الخطة هي أن يوسع ذلك من خريطة لندن الجغرافية والذهنية من غرب لندن حتى شرقها. وهذه الفكرة ليست بالجديدة على أهل لندن، التي شهدت سابقة لذلك في حي «كناري وارف» (أي: مرفأ الكناري)، الذي تم تحويله من مرسى سفن سابق إلى حي شركات عالمي ناجح أثناء الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

كذلك فقد تم وضع عجز الإسكان في لندن في الحسبان عند التخطيط، من خلال إنشاء 12 ألف منزل جديد، وهذه المنازل مصممة بحيث تتسع للأسر والأفراد، كما تم إدخال تجديدات عليها كي تتناسب مع الرياضيين، وليس العكس. ولا ترغب اللجنة الأوليمبية الدولية في أن يقوم المسؤولون والرياضيون بالطهي، لذا فقد تم بناء 3 آلاف وحدة سكنية مزودة بمساحة خالية للمطبخ تستخدم كغرفة نوم مؤقتة، وبعد انتهاء دورة الألعاب، سوف تتم إضافة المطابخ، وبعضها سيباع بأسعار أقل من سعر السوق.

أي إن وجود الألعاب الأوليمبية، التي لن تستمر سوى لأسابيع قليلة، تم اغتنامه كفرصة لتنفيذ واحدة من أكبر عمليات التجديد العمراني في أوروبا، فحدث كهذا يمثل فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة، ويعد الاستثمار الضخم الذي يصاحبها محفزا للتحديث والتطوير على المدى البعيد، وينبغي أن تكون الاستراتيجية الرئيسية للقيام بذلك مدروسة بإحكام مقدما. ويلخص هذا لماذا سيصبح نموذج دورة لندن الأوليمبية هو النموذج الذي ينبغي محاكاته في الدورات المقبلة.

وفي كلمة أمام مؤتمر الاستثمار العالمي الأول في قصر «لانكستر هاوس»، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون: «رسالتي اليوم بسيطة للغاية: إن بريطانيا عادت لفتح أبوابها أمام النشاط التجاري، ونحن ملتزمون بدعم النمو العالمي من خلال الانفتاح التجاري بين دولنا».

وأثناء مراسم الاستقبال التي تلت ذلك في «سفارة الأعمال البريطانية» ذلك المساء، كانت الرسالة هي أن بريطانيا العظمى تعد المجتمع الأكثر انفتاحا في العالم، وأنها مستمرة في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر من أي بلد أوروبي آخر، مما يخلق أكثر من ألف فرصة عمل جديدة كل أسبوع. وأيا كان القطاع الذي تعمل فيه، فهناك فرص للاستثمار، وخصوصا في المناطق المحيطة بالقرية الأوليمبية في لندن. ومع خفض الضرائب وتقليل القيود التنظيمية وتوافر أيدٍ عاملة تمتلك الموهبة، تكون بريطانيا منفتحة حقا أمام النشاط التجاري الدولي.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال».