ملك (السلبية) يتكلم

TT

يلومني البعض على مواضيعي التي أطرحها في الأيام الأربعة من كل أسبوع في عمودي الهزيل والمتواضع هذا، وقبل أيام خاطبني أحدهم من دون أي مجاملة قائلا: يا أخي أنت ينطبق عليك المثل القائل: (الناس في الناس، والعنز بالنفاس)، والنفاس لمن لا يعرف هي (الولادة).

سألته متأسفا: لماذا يا وجه الخير؟!

أجابني بحدة: (لعنبودارك): هل أنت أعمى، هل ضرب على عقلك، أليس لك مشاعر، ألا تعرف معنى الوطنية، ألا تحس بالمسؤولية، هل أنت إلى هذه الدرجة (مستمسح) لا يتحرك وجدانك وضميرك مما يحصل حولك في العالم العربي من ثورات واضطرابات ومظاهرات وقتل ودمار؟! وأنت جالس على كرسيك بكل برود (ولا على بالك). يا شيخ كان حريا بك أن تخجل من نفسك، وقبلها أن تخجل من مواضيعك التي لا تناقش فيها مشاكل الأمة، وإنما تطرح فيها فقط مغامراتك أو بمعنى أصح (تفاهاتك)، التي لا نستفيد منها بشيء اللهم إلا بتضييع الوقت، وختم كلامه قائلا: تربت يمينك.

تركته يسهب على راحته ولم أقاطعه، وعندما تأكدت أنه أفرغ كل ما في جعبته وسكت، قلت له: شكرا.. صدقت، معك الحق، فهذه هي فلسفتي وموقفي في كل ما يجري من حولي.

لم يعجبه ردي، وعبر عن ذلك بنهوضه وخروجه دون استئذان.

على أي حال، لست متأثرا من صراحته، بل بالعكس فهي زادتني إصرارا على المضي في منهجي الذي يبتعد بنفسه ويترك الساحة للمتقاتلين، لأنه لا يريد أن يكون يوما ما (لا قاتلا ولا مقتولا).

أعرف أن هذا قد يصنف على أنه نوع من (السلبية)، وإذا كان ذلك صحيحا فمرحبا بالسلبية، ولتنعتوني ابتداء من اليوم (بملك السلبية)، وأكبر دلالة هو موضوعي السلبي الذي سوف أحكيه لكم الآن.

لم أحزن منذ فترة طويلة قدر حزني على كائن شاركني الحلوة والمرة عبر سنوات كثيرة، وفقدته فجأة قبل أسبوع عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، ألا وهو ببغائي الصغير العابث الفصيح الملون، ويطلقون عليه بلهجتنا الدارجة اسم (بغبغان)، هذا البغبغان قدمه لي صديق كهدية، وسرعان ما نمت بيني وبينه ألفة وثقة ومحبة وكأنه ابني الخارج من صلبي، وما أكثر ما قفز على كتفي، وما أكثر ما كان يتبعني في أرجاء المنزل وكأنه كلب أليف لا ينتمي لفصيلة الطيور، وما أكثر ما أضحكني بحركاته البهلوانية فوق أعمدة اشتريتها له.

تعلم مني بطريقة مباشرة وغير مباشرة كلمات وجملا، بعضها مفيد وأكثرها غير مفيد، حتى شتائمي التي أخرجها لا شعوريا وقت الغضب يلتقطها، وبعد فترة أتفاجأ به وهو يوجهها لي، فأتقبلها منه، ويتحول حزني إلى سعادة.

واكتشفت أن (البغبغانات) تشبه الأطفال في خجلها أمام الغرباء، فالطفل يتحرج من إظهار مواهبه عندهم، كذلك هذا الطائر الذي يطبق عليه الصمت أمام ضيوفي، وأذكر أن أحدهم وضعه على يده محاولا استفزازه بالكلام وهو يقول له: تكلم، تكلم، تكلم، دون جدوى فما كان منه إلا أن يصرخ به قائلا: تكلم يا حمار، ثم تركه قائلا لي: إن ببغاءك هذا هو أغبى ببغاء في العالم، إنه (رضمة).

وبعد عشرة أيام تقريبا أتاني ذلك الشخص، وذهلنا عندما سمعنا الطائر يقول بكل فصاحة: تكلم يا حمار.

وأقسم لكم بالله إنني طوال تلك الأيام لم أسمع منه تلك الجملة إلا بعد أن زارني ذلك الرجل.

والآن ألا يحق لي أن أحزن؟!

[email protected]