خرافة العصا والجزرة!

TT

حاول علماء في دراسة مهمة أن يكتشفوا هل فعلا ما يدفع الناس نحو سلوك معين هو مفهوم «العصا والجزرة» أي أن ما يدفعهم نحو سلوك ما هو مبدأ الثواب والعقاب أم لا؟ وعليه فقد قام العالم الاقتصادي الشهير دان أريلي مع زملائه من جامعة كارنيجي ميلون وشيكاغو وجامعة MIT بتخصيص 3 مستويات من المكافآت المادية للمشاركين، عالية ومتوسطة ومنخفضة. وطلب منهم إكمال أنشطة تتطلب مهارات ذهنية Cognitive وأخرى تتطلب مهارات بدنية فنية Mechanical وكانت النتيجة أن الأنشطة التي تقتصر على المهارات الفنية كان تأثير المكافأة عاليا على المشاركين فيها، أي كلما ارتفع العائد تحسن الأداء، أما تلك الأنشطة التي تقوم على الأنشطة الذهنية البديهية فلم ترفع المكافأة العالية من أداء المشاركين، وطبقت الدراسة أكثر من مرة خلال أربعين عاما في بلدان مختلفة فكانت النتيجة نفسها، وهذه الدراسة التي رعاها البنك المركزي الأميركي تدل على أن المكافأة ليست دائما ما يدفع الناس نحو الجد والاجتهاد حتى ولو كان العمل يسيرا.

وفي دراسة أخرى أجريت في إسرائيل أخبر العلماء أولياء الأمور أن من يتأخر منهم في أخذ ابنه من المدرسة (بعد موعد الانصراف) سوف تطبق عليه غرامة مادية، فكانت النتيجة أن معدل التأخر ارتفع، ليس عنادا بحسب الباحثين لكن لأن الناس تتصرف وفق أهوائها وليس دائما وفق مبدأ الثواب والعقاب، كما ذكر الدكتور «دانيال بنك» في كتابه الذائع الصيت Drive أو الدافع، والذي أطلق فيه نظريته الشهيرة التي أكدها بالأدلة والتجارب العلمية المذكورة في كتابه، حيث أظهرت أن الإنسان إنما هو بشر تدفعه نحو سلوكياته أهواؤه وحاجاته ورغباته وليس دائما مبدأ العصا والجزرة «المنتشر في عالم الأعمال» والذي يعامل الفرد على أنه «مخلوق مادي».

ويضرب مثلا على ذلك بأنشطة كثيرة يقوم بها الإنسان طواعية وبنجاح من دون مثير خارجي يسلط عليه، كأن يهب أحدنا لنجدة شخص أو مساعدة محتاج حتى يقضي له حاجته ومن دون مقابل، أو أن ينكب البعض لساعات للعزف على آلة موسيقية أو ممارسة هواية من هواياته من دون أن يكون هناك دافع مادي يحفزه سوى المثير الداخلي.

ولذا يرى المؤلف، وأنا معه، أن الإنسان حينما يمنح متسعا من الوقت ليقوم بالأعمال التي يراها هو مهمة بالنسبة إليه أو تحقق له ذاته أو يود تجربتها سواء في العمل أو خارجه فإن ذلك يطلق العنان لإبداعاته ويجعله يتألق ويبهر الآخرين، إذا كان النجاح حليفه، مثلما يفعل موظفو شركة «غوغل» الذين تمنحهم الشركة 20% من وقت الدوام لتمضيته في أي أعمال شخصية تحلو لهم، ونتيجة لذلك أبدع الموظفون في ابتكار منتجات وخدمات مهمة مثل البريد الإلكتروني وآليات البحث بالإنترنت المتفوقة وغيرها، وهذا دليل آخر على أن مبدأ العصا والجزرة ليس هو الوحيد الذي يجب أن نستخدمه كدافع للسلوك، بل على النقيض فقد يؤدي مبدأ الثواب والعقاب إلى أن يثمر سلوك الفرد إيجابا على المدى القصير، مثل ذلك الولد الذي يكافأ ماديا كلما حل واجباته المنزلية ثم سرعان ما يتراجع أداؤه بتوقف ذلك الحافز المادي!

داخل كل إنسان قوة داخلية عظيمة يمكن أن تدفعه إلى أن يبدع ويتألق، مثلما نشاهد المشاركين في موسوعات غينيس للأرقام القياسية وفي الألعاب الأولمبية التي يكسر فيها اللاعبون الأرقام القياسية تلو الأخرى، وذلك بسبب أنهم وجدوا ضالتهم في أمر يحبونه فكرسوا طاقاتهم واهتماماتهم في سبيل تحقيق أهدافهم. ومنهم من منح «فرصة التجربة» فأبهر الجميع بمواهبه، حتى صار المسؤولون في بلده يستقبلونه بالأحضان بعدما غادره إلى الأولمبياد مغمورا، ليعود وقد استقبلته عدسات الكاميرا وابتسامة المسؤولين.

مبدأ العصا والجزرة يمكن أن يفلح في بعض الأنشطة، لكنه حتما ليس المبدأ الوحيد الذي يفجر طاقات الناس ومواهبهم في القرن الواحد والعشرين.

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]