خسر الأكراد رهانهم على الديمقراطية

TT

قد لا يتفق معي البعض عندما أقول إن وجود صدام حسين على رأس السلطة في العراق كان أجدى وأنفع للقضية الكردية من النظام الحالي، فعلى الرغم من بشاعة صدام المعروفة في ممارسة القمع المنظم ضد الشعب الكردي، وحقده الكبير عليه، ومحاولاته الدائمة لإخضاعه للأمر الواقع الاستعماري «العروبي»؛ بحيث لم تبق وسيلة إلا واستعملها لتصفية قضيته والقضاء عليه، فإنه مع كل هذه الجرائم التي لا تغتفر، ومع كل حالات الفقر التي كان يعانيها إقليم كردستان لسنوات عجاف (من 1991 إلى 2003) جراء الحصارين الاقتصاديين الشديدين الحكومي والدولي اللذين فرضا عليه، فإن قضيته كانت تحوز أهمية أكبر وخصوصية أكثر من جانب الدوائر السياسية العالمية والمنظمات الإنسانية الدولية، لا يمكن مقارنتها بما هي عليه الآن.

يكفي أنه وضع تحت إشراف وحماية الأمم المتحدة المباشرة عبر قرارها المهم 688 القاضي بحظر الطيران الحكومي على المناطق الكردية، وبمتابعة وتأييد قوي من جانب الولايات المتحدة.

ولا أحد ينكر أن إقليم كردستان وصل بعد تحرير العراق 2003 إلى مراحل متقدمة من التطور العمراني والاقتصادي نسبة إلى المناطق الأخرى في العراق، بفضل تنشيط حركته التجارية الواسعة مع دول الجوار، وانتهاج سياسة استثمارية متقدمة من خلال إصدار قانون الاستثمار الذي فتح أبواب الاستثمار على مصاريعها للرأسمال الأجنبي بتسهيلات كبيرة، رافقه تطور آخر على الصعيد السياسي، حيث تبوأ لأول مرة في تاريخ العراق المعاصر أعلى المناصب في الدولة (رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية)، وكان من المؤمل أن يضيف هذان المنصبان الخطيران شيئا لقضية الكرد الأساسية ويساعدان على حل الأزمات القائمة بين الحكومة المركزية والإقليم، وعلى رأسها أزمة المناطق المتنازع عليها وأزمة النفط والغاز، ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل. وظلت المشاكل تتفاقم بين أربيل وبغداد، حتى وصلت إلى التهديد بالعمل العسكري وفرض الإملاءات السياسية بالقوة القاهرة، من خلال تحشيد قوات عسكرية حكومية ضخمة (خمس فرق بكامل عدتها وعتادها) على حدود الإقليم، متأهبة للدخول في معركة طاحنة غير محمودة العواقب، وخاصة أن إقليم كردستان اليوم لا يتمتع بحماية دولية ولا يحظى بدعم مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركية كما في السابق..

وإن كان الأكراد قد عقدوا آمالا كبيرة على الدستور العراقي وتحمسوا له كضمانة «قانونية» لنيل حقوقهم المهضومة، والوصول إلى أهدافهم القومية عن طريق الآليات الديمقراطية، فإن هذه الآمال اليوم قد تلاشت وذهبت أدراج الرياح، بعد أن نقضه «المالكي» وخرق بنوده واحدا بعد آخر.. ووقف الأكراد عاجزين تماما أمام هذه التجاوزات الدستورية الخطيرة، بسبب وجودهم الضعيف وغير المؤثر في البرلمان العراقي، فهم يمتلكون أقل من ربع المقاعد في البرلمان (50 مقعدا من مجموع 325 مقعدا)، لذلك فهم دائما بحاجة إلى أصوات الكتل الأخرى الكبيرة لتعطيل أو تفعيل مشروع سياسي كبير، في حين أن الدستور العراقي في العهدين الملكي والجمهوري يشير إلى أن العراق شراكة بين قوميتين رئيسيتين ومكونين أساسيين: عربي وكردي، والدستور البعثي أيضا يقرر أن العراق مكون من قوميتين رئيسيتين: القومية العربية والقومية الكردية، في حين أن النظام «الديمقراطي» الجديد يؤكد على أن العراق يتشكل من عدة مكونات رئيسية، وهي «المكون الشيعي والمكون السني والمكون الكردي والمكون التركماني والمكون اليزيدي والمكون المسيحي.. إلخ»، ولا يمكن التوصل إلى حل نهائي في أي قضية مفصلية كبيرة ما لم تتوافق عليها جميع هذه المكونات المتناقضة فكريا وطائفيا وعرقيا، وهذا شبه مستحيل، وأبرز مثال على ذلك المادة 140 الدستورية التي ما زالت تنتظر توافق الكتل والمكونات والإثنيات المختلفة منذ سنوات من دون نتيجة. وفي خضم انشغال الأكراد بمتاهات العمق العراقي وانهماكهم بمشكلاته وأزماته الكثيرة، ومحاولاتهم المتواصلة للتوفيق بين الفرقاء السياسيين في خلافاتهم الطائفية وصراعاتهم السياسية، وتقديم مبادرات تلو مبادرات لهذا الغرض، تميعت القضية الكردية وفقدت جزءا كبيرا من تفردها وخصوصيتها القومية لصالح الخصوصية العراقية.

* كاتب عراقي