الطريق إلى طرطوس

TT

بعد المذابح البشعة التي تعرض لها الشعب السوري على يد قوات القمع، لم يعد الانتقال السياسي على غرار الطريقة اليمنية ممكنا، وستأخذ الوصفة الأميركية التي تدعو إلى المحافظة على تماسك القوات المسلحة وأجهزة الأمن طريقها إلى «سلة المهملات». ومن يصر على البقاء في هذه الأجهزة حتى ساعة السقوط لا يستحق أكثر من شموله بالرأفة والعفو، إن لم يكن في مواقع القرار والأمر والقيادة والتنفيذ الميداني.

وبدل الاستجابة للدعوات الدولية، قررت عصابة النظام تحويل الصراع إلى حرب أهلية بطابع طائفي، بمسايرة نفر ضال من أبناء مناطق الثورة، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مطايا طيعة، طمعا أو جبنا. وما كانت عمليات حمص والساحل إلا حملات تطهير طائفي، أريد بها التمهيد لأرضية إقامة دولة الساحل، من طرطوس إلى اللاذقية طولا، ومن البحر إلى حمص عرضا، إذا ما فشل القمع في مجابهة الإرادة الشعبية. إلا أن شباب الثورة أحبطوا خطط فرض السيطرة على حمص، بدفاع أسطوري قل مثيله.

ومن الناحية العسكرية المجردة، فإن فكرة تكوين هذه الدولة قابلة للتنفيذ، بحكم استحواذ السلطة على القسم الأكبر من معدات القتال، ووجود قدرة بشرية مؤقتة لتشغيل المعدات اللازمة للدفاع عن «دولة الأوهام»، إلا أن مثل هذا الدفاع سيكون مكلفا جدا على المدى المتوسط، مهما بلغ الدعم الخارجي. لأن تعبئة الطاقة البشرية العاملة كلها في التشكيلات القتالية سيؤدي إلى شلل تام في مؤسسات الدولة المدنية. فيستحيل تحقق إدامة الصراع تجاه قوة لا تدفعها رغبة الانتقام وحدها، بل أهمية الموقع البحري للدولة الأم، ووجود نسبة بشرية مهمة موالية لوحدة الدولة على طول الساحل. وسيقع صراع حاسم تكون الغلبة فيه للدولة الأم. ولن تترك احتمالات الاحتكاك في المناطق الكردية - إذا ما حدثت - أثرا كبيرا على الوضع الاستراتيجي.

تكوين دولة الساحل يتناغم مع مصالح الروس، للمحافظة على قاعدتهم في طرطوس، غير أن عمر هذه الحالة - إذا ما تحققت - سيتوقف على مدى الضغط العسكري من الدولة الأم، التي ستحظى بدعم عربي غير مقيد. وعندئذ يجد الروس أنفسهم أمام حقيقة أن الهرب لا مفر منه، بسبب موقفهم الرسمي الأحمق المؤيد لاستخدام القوة المفرطة ضد غالبية الشعب السوري.

أي محلل أو خبير عسكري يتابع الثورة السورية، لا يمكنه إلا أن يؤدي التحية، إعجابا بما تحقق من نقطة الصفر إلى مجابهة نظام ثبت أنه أكثر إجراما من أي نظام آخر. فمن شعب لا يمتلك بنادق صيد إلى جيش مقاتل كأنه نزل من السماء، وكل ما يقال عن أن السلطة لم تستخدم إلا نسبة قليلة من تشكيلات الجيش ليس صحيحا بالكامل، فقد استخدمت كل الموارد بلا استثناء، وبدأت تقارير المعارضة عن وجود تعزيزات بشرية خارجية لصالح السلطة، تكتسب مصداقية واضحة، ويرجح أن يكون بعض عمليات القتل المطبوعة بقسوة مفرطة من عمل هؤلاء المرتزقة وقوى الشر الآتية من خارج الحدود.

إن ما يقال عن حرب إقليمية قد يكون مبالغا فيه حتى الآن، فالأردن أكثر قدرة على التماسك والتحسب واتخاذ القرار الصحيح، مما يعتقد بعض المحللين، وستذهب جهود السلطة في دمشق إلى خانة الفشل الأكيد، مهما تمادت تجاه الأردن. ومن يذهب إلى عمان يخرج بذات الانطباعات الإيجابية التي تتكون ساعة الدخول. وما يطرح من احتمالات لنشوب حرب مباشرة بين إيران وتركيا فلا يتعدى السيناريوهات التخيلية. أما محاولات إشعال حرائق أو تدبير عمليات إخلال في الأمن أو حوادث تخريب في تركيا ومصر والخليج، فهذا من ألف باء حسابات الأمن ولا مفاجأة فيه. وللدول المعنية القدرة الكافية لاحتواء نشاطات كهذه، عدا البطن الرخوة في لبنان، وربما يختار الناس هناك الجنوح إلى التعقل، والتسليم بالأمر الواقع.

منذ تفجير مكتب الأمن القومي، وخلافا لأبسط متطلبات القيادة والسيطرة، فإن بشار لا يزال يحرص على التخفي. وإذا كان الطريق إلى قاعدة طرطوس الروسية مفتوحا حتى الآن، فسيغلق أمامه مستقبلا. ففي كل يوم يمر، تزداد فنون «الجيش الحر» في تنويع أساليب الحرب الثورية، خصوصا ما يتعلق بالتحكم في الحركة العسكرية على الطرق الرئيسية والفرعية، وقد ظهرت استخدامات واسعة للعبوات الناسفة تجاه الأرتال العسكرية، وهو أسلوب أرهق القوات الأميركية في حرب العراق.