من يخاف التقسيم؟

TT

يجري الحديث في الصحافة العربية عن موضوع كان في الماضي محظورا ومعيبا حتى من باب الذكر، هو التقسيم. وكانت المسألة الأولى في حرب لبنان هي مقاتلة «دعاة التقسيم» و«الانعزاليين»، أي الأحزاب المسيحية. فقد كانت هناك شكوك، تدعمها وقائع، بأن معظم المسيحيين يخشون الوحدة العربية لكي لا يذوبوا فيها.

مرت حرب لبنان بعد عقدين بتغير معادلة النظام وبقاء البلد موحدا. وبدا أن الصراعات الطائفية قد هزمت. وعندما وصل المفكر الإيراني محمد خاتمي إلى الرئاسة لم يدع فقط إلى تصالح الطوائف، بل أيضا إلى تصالح المذاهب وبسط السلام فوق براكين الشرق.

ظهر وباء التقسيم من جديد في يوغوسلافيا، عندما عادت الخرائط تتغير منذ اتفاقات يالطا وبوتسدام. وبعد يوغوسلافيا خرجت تيمور الشرقية من إندونيسيا دولة مستقلة. وللمرة الأولى بعدها أخذت صحف العرب تتحدث من دون أي حرج عن شيعة العراق وسنة العراق. وانتهت حروب العراق لتوحيد العرب وهزم الفرس إلى تفتيت العراق ووقوعه تحت النفوذ الإيراني. وأصبحت لكردستان للمرة الأولى حدود ظاهرة. ولم يعد حديث التقسيم محظورا في مكان، بل انقسم جنوب السودان في استفتاء، بعد 50 عاما من حروب الوحدة.

يصار الآن إلى الحديث عن تقسيم سوريا بعدما كانت لا تذكر إلا مرفقة بصفة «قلب العروبة النابض»، اللقب الذي أعطاها إياه جمال عبد الناصر. وفي مصر جرت للمرة الأولى معارك طائفية بالسلاح. وفي شمال سيناء وقعت حركة مشبوهة نسبت بسرعة إلى إسرائيل، لكن يبدو أنها أسوأ من ذلك بكثير. إنها الأحلام المريضة التي تساور أهل الدار والجوار في الظلام الشديد.

من يخاف من هذه الموجة المريعة؟ ليس العرب.. فهم في سرهم مرتاحون إلى الانفصالات والأحلام الضيقة. وقد ملوا أحاديث الوحدة وأناشيدها. وها هم يتنفسون الصعداء، كل تحت رايته وعلمه ونشيده الصغير. الخائف الأكبر من التقسيم الآن هو تركيا، التي ضمت طوال قرن نصف العالم الإسلامي، وغلبت بيزنطيا، وعبرت أوروبا حتى الدانوب.

عندما قلّم أتاتورك الإمبراطورية المهزومة إلى دولة قابلة للحياة، بقي فيها خليط كبير من الانتماءات التي لها أبعاد خارج حدودها، كالأكراد والعلويين. لذلك ارتعدت من «الذاتية» الكردية في العراق، وتخاف الآن من «الذاتيات» الأخرى في سوريا. وإذ حركت دمشق في وجهها «المحافظات» الكردية، طار منظّر أنقرة داود أوغلو فورا إلى أربيل. لا تحتمل أنقرة تحريك قضية الإسكندرون، ولا قضايا الأكراد، ولا ظهور النوازع التقسيمية عند جاراتها. والإمبراطورية التي قامت سياستها على تقسيم العرب ولايات، همها الآن وحدتهم.