خذوا الحكمة من «أمنية خطاب»

TT

قبل أيام، نشرت الزميلة حنان شمردل تقريرا في «المصري اليوم» قالت فيه هذه العبارة: إذا كان الفضل في إطلاق ثورة 25 يناير يرجع إلى الشباب، فإن ثورة «سلوك المصريين» سيرجع الفضل فيها لأمنية خطاب (12 عاما) التي حصلت مؤخرا على لقب «سفيرة الأطفال».

أما أمنية خطاب، فهي طفلة مصرية، حصلت من خلال اتحاد الأطفال العرب على اللقب، ورشحتها مدرستها لتقديم برنامج على إذاعة اتحاد الأطفال العرب بعنوان «مصر كما ينبغي» لتعرض من خلاله أفكارها التي تسعى إلى تغيير ما يجب تغييره في مصر، وهو ما اعتبرته أمنية «ثورة جديدة»، وقالت: ثورة يناير استمرت لعدة أيام فقط، وبعدها اتجهت في طريق خاطئ بسبب السلوك العام. وأضافت أمنية: نحتاج في البداية لثورة على سلوك الأشخاص، وبعد ذلك سوف تنجح أي ثورة نقوم بها.

وعلى الرغم من أن أمنية لا تزال طفلة في الثانية عشرة، وعلى الرغم من بساطة كلامها وأفكارها، وعلى الرغم من أن البعض قد يسمع كلامها، أو يقرأه، ثم يعبر عليه سريعا دون اهتمام، فإنه في اعتقادي، يمس جوهر المشكلة الأم التي نعاني منها، والتي تتمثل أساسا، في «السلوكيات السائبة» التي يصطدم بها كل من يتعامل مع الناس في حياته على مدار اليوم، وبامتداد المجتمع طولا وعرضا.

وكان الرئيس محمد مرسي، قد ناشد المصريين، وهو يؤدي صلاة التراويح في مسجد «الحمد» في حي التجمع الخامس شرق القاهرة، مساء الثلاثاء الماضي، أن يقطع كل مواطن التيار الكهربائيعن منزله، ساعة واحدة ليلا، وأخرى في النهار، لعل الأحمال التي ينوء بها قطاع الكهرباء تخف قليلا، فتتراجع ولو مؤقتا ظاهرة انقطاع التيار عن أحياء سكنية كاملة، لساعات طويلة، وسط جو ضاق فيه المواطنون من أنفسهم، بسبب حرارة الجو الخانقة.

ولا أعرف ما إذا كان الدكتور مرسي، قد أطلق دعوته تلك، من وحي اللحظة، وهو يخطب في الذين كانوا يؤدون معه صلاة التراويح، أم أنه كان يريد أن تكون الدعوة إياها، بداية لثورة في السلوك، كانت أمنية خطاب قد نادت بها مبكرا، قبل أن يطلقها هو، فلم يتوقف عندها أحد.

لا أعرف على وجه التحديد.. وإن كنت أرجح أن يكون الدكتور مرسي، قد أدرك بمجرد أن تولى منصب الرئاسة، أننا إذا كنا في حاجة إلى الثورة على النظام السابق، مرة، فإننا في حاجة إلى ثورة حقيقية على السلوك العام في كل مكان، وعلى كل مستوى، سواء كان الرسمي أو الشعبي، عشرات المرات!

يكفي - مثلا - أن تقرأ عن تلك الدعوة التي أطلقها الرئيس، هادفا من ورائها إلى ترشيد استهلاك الطاقة.. يكفي أن تقرأ عنها في صحف الصباح، ثم تتجول في أنحاء العاصمة، ظهرا، لترى بعينيك كيف أن أعمدة الكهرباء على الطريق الدائري المحيط بالعاصمة، تضيء «في عز الضهر»، وكذلك الحال فوق كوبري أكتوبر، وعلى كوبري قصر النيل، و.. و.. إلى سائر الشوارع، والكباري، والطرق.. وعندها، سوف يكون عليك أن تؤمن، عن يقين، بـ«إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وأن الحكومة لو اعتدلت في سلوكها العام، لاعتدل الناس تلقائيا، وبالتوازي، في سلوكهم الخاص.

في فبراير (شباط) الماضي، كنت في اليابان، وكنت في موعد مع مسؤول في وزارة الصناعة اليابانية، في العاصمة طوكيو، في الحادية عشرة صباحا وقد لاحظت، حين كنت في طريقي إلى مكتب المسؤول، أن ممرات المبنى مظلمة تماما، وأنك بالكاد تستطيع أن تشق طريقك إلى حيث تريد.. وعندما وصلت إلى المكتب، راح المسؤول يعتذر عن إظلام ممرات المبنى، مبررا ذلك بأن هناك دعوة عامة في اليابان، إلى ترشيد استهلاك الطاقة، وأن الحكومة بوزاراتها تبدأ بنفسها، وتطفئ كل ما لا لزوم له من لمبات الكهرباء.

عندها، كان لا بد للمرء أن يعقد مقارنة سريعة، بينه وبين نفسه، وهو يرى وضعا من هذا النوع، قياسا على وضع آخر في بلاده يتميز بالسفه على كل مستوى، سواء كان هذا المستوى يخص الناس، أو يتصل بالحكومة وما تمارسه أمام مواطنيها.

إنه مشهد ياباني لا يفارق ذهني، وأتذكره في اليوم عشرين مرة، حين أرى مشاهد أخرى، في كل ركن من بلادنا، على النقيض منه تماما.

مشهد آخر: كنت يوما في طريقي إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكنت أنتظر ساعات ترانزيت في مطار فرانكفورت الألماني، وبينما كنت في مقعدي في المطار، وقعت عيناي على رجل كان قد انتهى من التهام شيء ما، كان في يده، وكانت بقايا من الورق المستهلك لا تزال بين يديه، فقام من كرسيه، وقطع أمتارا ممتدة ليلقيها في سلة قمامة كانت بعيدة عن مجلسه، وكانت المسافة الطويلة نسبيا بينه وبين السلة، تبرر له أمام نفسه، لو أراد، إلقاء بقايا الورق على الأرض بجانبه.. غير أنه نهض، وتحرك، وألقاها هناك حيث يجب أن تكون، ثم عاد إلى مقعده!

بطبيعة الحال، فإن ما فعله الخواجة الأجنبي، سلوك طبيعي بنسبة مائة في المائة، ولا يجوز أن يلفت انتباه أحد، فهذا ما يجب أن يقوم به أي إنسان، وإذا قام به، كان شيئا طبيعيا لا يتعين أن يستوقفك، أو يستوقفني، أو يستوقف أي شخص.. ولكن.. هذا ما يحدث كل يوم، ولو رحت تحصي سلوكيات الناس في الشارع عندنا، ثم قررت أن تقيسها على مثيلاتها في أي بلد أوروبي، فسوف يتبين لك، أن السلوك السليم هو الاستثناء في مجتمعنا، وأن السلوك المنحرف هو القاعدة في كل وقت!

تصور، أن منظر رجل ينهض من مكانه، في مطار فرانكفورت، ليقذف ببقايا أوراق ممزقة كانت في يده، إلى صندوق القمامة.. تصور أن منظرا كهذا، يستوقف المسافر منا، ويظل يتأمله ويتأمل معناه، وكأنه يتابع معجزة، ثم يتمنى لو أن مواطني بلادنا جميعا تصرفوا بالطريقة ذاتها، ولم يلقوا بما في أيديهم، تحت أرجلهم، في الطريق العام، كما نشاهد ونرى في كل لحظة.

من ناحيتي، فإنني لا أنسى تلك اللقطة في المطار الألماني، رغم أنها شيء عابر، وعلى الرغم من بساطتها المتناهية، ولكن تظل مثل هذه التفاصيل، في حياة المواطن، في أي بلد، دلالة على ما هو أكبر، في حياة الوطن بأكمله.. ذلك أن مواطنا من نوع الخواجة الأجنبي في مطار فرانكفورت، يستحيل أن يتصرف في حياته، على مدى اليوم كله، على غير ما تصرف، عندما تعامل مع القمامة التي كانت في يده.. وهو، إذا كان قد استحضر ضميره، في سلوك عابر كهذا، فلا بد أن الضمير نفسه، سوف يظل يصاحبه كظله، في كل سلوك آخر! إنني على يقين، من أن المسافة بيننا، وبين أن نكون متحضرين في سلوكياتنا العامة، هي بالضبط المسافة التي كانت تفصل بين الرجل، وبين صندوق القمامة، وهي بالطبع مسافة لا تقاس بالأمتار، ولا بالكيلومترات، ولكنها تقاس بالسنين التي قطعها أولئك الناس ليكونوا في النهاية، «بني آدمين»، يتصرفون في حياتهم، كما يليق بالإنسان الحر أن يتصرف.

لو كنت في مكان الدكتور مرسي، رئيسا منتخبا، يريد أن يقدم شيئا يبقى لبلاده، لتبنيت على الفور، دعوة أمنية خطاب، مع الأخذ في الاعتبار «إن الله يزع بالسلطانما لا يزع بالقرآن» بمعنى أن المواطن المسلم قد يعرف أن القرآن يحرم عليه أن يفعل شيئا ما، ولكنه، مع ذلك، يفعله، لأنه يعرف أن القرآن، ككتاب سماوي مقدس، لن يأتي له ماشيا على قدمين ليحاسبه على ما ارتكب من خطأ، ولذلك، يخطئ الملايين، في كل ساعة، وهم يعرفون أن ما يفعلونه خطأ، وأن القرآن يمنع ذلك، ولكن الله سوف يكون غفورا رحيما، حين يأتي الحساب!

منطق كهذا، لا يبني أوطانا، وإنما يبنيها السلطان الذي يمنع بقوة القانون، ما يجب أنلا يكون، وعندها فقط، يمكن أن يرتدع المخطئون، وأن يوقنوا أن الله يزع، أي يدفع، بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن.

خذوا الحكمة من أمنية خطاب!