فكيف ليل فتى الفتيان في حلب؟

TT

للربيع العربي وجهان مختلفان، يمكن من خلالهما أن ندرك أن التغييرات التي وقعت تمت عبر نهجين مختلفين، وأعني بذلك القدرة على التفرقة بين السبل التي تغيرت بها الحكومات في تونس ومصر وليبيا واليمن وفي سوريا في المستقبل، وأريد هنا أن أركز على الوسائل التي انتهجتها الحكومات في تعاملها مع شعوبها، والمظاهرات والثورة، أو إن شئت القول «ريفوليوشن» (الإصلاح من الداخل)، المصطلح الجديد الذي تمت صياغته قبل سنوات في أعقاب الثورة الملونة في أوروبا الشرقية، ثم الربيع العربي.

يمكننا تقسيم هذه البلاد أو الثورات إلى نموذجين مختلفين، النموذج الغربي والنموذج الشرقي. مبارك وبن علي انتهجا النموذج الغربي، أما القذافي وبشار الأسد فاتبعا النموذج الشرقي. وقبل الربيع العربي، تبع شاه إيران النموذج الغربي، فيما تبع صدام النموذج الشرقي. لكن ما معيار التعرف على هذه النماذج؟

بداية، كانت جيوش الدول التي تبعت النموذج الشرقي تتلقى الدعم من الاتحاد السوفياتي السابق وخلفها روسيا في الوقت الراهن، وتمت هيكلة قواتها الأمنية وفقا للنموذج الروسي كذلك. هذا الأسلوب العسكري للحكم قائم على الاستبداد المطلق، وقد كان ستالين أيقونة لهذا النظام الشهير - أو بالأحرى سيئ السمعة. وليس بخفي أن الحرية في أي شكل أو على أي شكل تقف على طرف نقيض من هذا النموذج.

والآن دعونا نركز على قضية النظام السوري. في عهد حافظ الأسد لم يتمتع الأفراد بحرية الوصول إلى الإنترنت والهواتف الجوالة وآلات الطباعة وخلافه، فقد كانت الحكومة تسيطر على كل شيء. وأذكر أنني خلال لقائي الأول والأخير مع بشار الأسد في أولى أيام حكمه قال إن السوريين يريدون مني الديمقراطية والحرية، لكنهم نسوا أنني لم أنتخب رئيسا بصورة ديمقراطية. وعندما يواجه نظام مثل الأسد أزمة سياسية، كانت روسيا والصين تقوم بكل ما في وسعها لدعم النظام بما يتفق مع مصالحها.

ولهذا ترك بن علي البلاد بعد أسبوعين، وترك مبارك السلطة بعد ستة أسابيع لكن القذافي ظل في السلطة لأكثر من ستة أشهر، واستخدم الصواريخ والمدفعية الثقيلة ضد شعبه. أراد قتل الثوار في كل مكان، كما قال «بيت بيت، ودار دار، وزنقة زنقة». والآن يواجه بشار مقاومة قوية من المعارضة منذ أكثر من 16 شهرا، تحولت معها حلب العاصمة الاقتصادية للبلاد إلى أطلال. لكن بشار لا يزال يعتقد أنه قادر على تخطي الأزمة. «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين أعمالا * الَّذِين ضَلَّ سَعْيُهم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهم يَحْسَبُون أَنَّهم يُحْسِنُون صُنْعًا» (سورة الكهف 103 – 105).

محاولة معرفة أن قوات الأسد فقدت شرعيتها، ليس بالأمر الصعب. فبينما كنت أشاهد التلفزيون السوري، كان المذيع يقول: «إن جيشنا الوطني وقواتنا الخاصة قتلوا عددا كبيرا من الإرهابيين». ويبدو أنه بحسب هذه القنوات، فإن عددا كبيرا من السوريين إرهابيون، هل هذا مقبول؟ كيف يمكننا القول إن الغالبية العظمى من الشعب إرهابيون؟ كيف يمكننا إصدار هذا الحكم بهذا اليقين القوي؟

الحقيقة أنه في النموذج الشرقي، تفترض الحكومات أنها قادرة على حل كل أزمة باستخدام القبضة الحديدية. فهم قادرون على تدمير المنازل وهدم المدن وقتل المتظاهرين. لكن هذا أمر سخيف، فقد شهدنا انهيار الاتحاد السوفياتي ونعلم أن هذا الأسلوب من الحكم لم يعد مجديا. هل ترغب روسيا الجديدة والصين في إعادة بناء مثل هذا النموذج؟

تعتبر حلب خزانة كبيرة للثقافة والحضارة، لا للسوريين فحسب، بل للعالم أجمع. وللأسف، نشهد تدمير هذه المدن الجميلة كل يوم. ففي حلب هناك - أو بالأحرى كان هناك - 150 مبنى رائعا غالبيتها من المباني أو المعالم الفريدة في العالم.

زرت هذه المدينة الجميلة قبل عشرين عاما، بدعوة من الدكتور تونجي إلى منزله لاحتساء قدح من الشاي الحلبي. جلسنا في مكتبه في الطابق الثاني من منزله وكنا نتحدث بشأن التاريخ الطويل والثري لحلب. تطرق بنا الحديث إلى بدر شاكر السياب، ورددنا بعضا من قصائده. وقلت له إنني أرى نفسي في مدينة السندباد، في عالم الأساطير. فحلب ليست بالمكان العادي. وقرأ التونجي قصيدة أبي العلاء المعري:

يا شاكي النوب انهض طالبا حلبا

نهوض مضني لحسم الداء ملتمسي

واخلع إذا حاذيتها ورعا

كفعل موسى كليم الله في القدس

كيف يمكنني أن أنسى تلك الليلة! كيف يمكنني أن أنسى حلب الجميلة. تلك المدينة التي لعبت دورا بارزا في التاريخ الإسلامي. فكانت المدينة خلال حقبة العثمانيين، ثاني أو ثالث أشهر مدينة في العالم الإسلامي.

وما من شك في أن ما يجري في سوريا ليس جزءا من الربيع العربي، إنما هو شتاء جاف حالك السواد، مليء بدماء الضحايا، خلف دمارا شاملا لسوريا والسوريين، ودمار ثقافة وحضارة. إن حلب باتت مثل مرآة مكسورة تعكس حقيقة الشتاء العربي في سوريا. هذه لعبة لن ينتصر فيها أحد، فقبل أكثر من عام، أشرت في أحد مقالاتي أن على بشار الأسد أن يجري انتخابات حرة وبإمكانه أن يشارك فيها مرشحا. وقلت حينئذ إنه إن فاز في الانتخابات فسوف يكون الرئيس الشرعي وسوف يحكم بصفته رئيسا حقيقيا، وإذا ما خسر فسوف يكون مؤسس ديمقراطية حقيقية وحرة في سوريا.

ولسوء الحظ قد خسر كثير من الوقت، ولطخت يداه بدماء أبناء شعبه، وستقول الأجيال القادمة في المستقبل إن سوريا دمرتها حكومة الأسد.

يعتقد بشار أن نظامه أشبه بقلعة قوية، تقاوم إسرائيل لكن الحقيقة هي أنه يدمر أمته ودولته. كيف يمكنه تبرير هذا التناقض؟ من يستطع أن يبرر جرائم إسرائيل أفضل من بشار الأسد؟ هذا هو الأسلوب الشرقي في الحكم، الذي تتلخص استراتيجيته الرئيسية في القتل والتدمير.

أنا أتساءل الآن ما الذي يمكن أن يكون قد حدث لمنزل الدكتور تونجي الجميل؟ ما الذي حدث لكل الطلاب الذين التقيتهم في جامعة حلب؟ كيف يقضون الليالي في مثل هذا الموقف الموحش؟ وربما لا يعبر عن ذلك سوى المتنبي:

فكيف ليل فتي الفتيان في حلب؟