«ساهر الليل» وأم المعارك

TT

في العراق، ما زال بعض الكتاب يبحثون عن موضوع يملأون به أعمدتهم في الصحف التي لا يطالعها إلا من يكتب فيها. وما زال البعض من أشباه المثقفين والكُتاب يتصيد الأخبار ويختلق المعارك ويوهم نفسه بأنه ينقل الحقائق، متناسيا بأن الكثير من الحقائق عايشناها وتعايشنا معها ودفعنا ثمنها من أعمارنا وأجسادنا وثقافتنا التي حولها البعض يوما ما إلى سلاح يقاتلنا به في اللحظة التي يختارها.

لا أدري ما الذي يدفع البعض من المحسوبين على العراقيين الذين جعلوا من صفحات الـ«فيس بوك» (ساحة لأم المعارك)، شاهرين كل أسلحتهم بوجه عمل درامي تاريخي أنتجته الكويت يحمل عنوان (ساهر الليل.. وطن النهار) وهو يوثق مرحلة الغزو الصدّامي للكويت في الثاني من أغسطس (آب) عام 1990. والغريب في الأمر أن من يعترض على العمل لم يشاهده، وأن الاعتراض بدأ منذ الحلقة الأولى من دون أن يدركوا أن للدول كل الحق في توثيق تاريخها، خاصة إذا ما تضمن هذا التاريخ عملية غزو كالتي حصلت للكويت من قبل نظام صدام وليس من قبل الشعب العراقي الذي رفض هذا الغزو منذ لحظته الأولى.

إن المسلسل لم يأت بجديد، فصدام غزا الكويت ولا يمكن لمن ينتقد المسلسل أن يقول بأن صدام لم يقم بهذا أو أن ما فعله عمل حسن يجب ألا يتطاول عليه أحد. هذه حقيقة ثابتة، مثلما هتلر وغزواته حقيقة جسدتها عشرات بل مئات الأفلام في هوليوود وغيرها ولم يعترض الألمان على ذلك، وقنبلتا اليابان كانتا أكثر من حدث في أكثر من عمل فني، وحرب فيتنام كانت مادة دسمة للأفلام الأميركية التي عالجت الكثير من الحالات التي حصلت، وشاهدنا عشرات الأفلام العربية التي توثق مراحل تاريخية ولم نعترض عليها.

والشيء الآخر والمهم أن الأحداث التي يتناولها المسلسل ما زالت عالقة في ذاكرة الشعب العراقي والشعب الكويتي معا، وأجد أن اعتراض البعض ما هو إلا محاولة لتلميع صورة الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي قام بعمل استنكره كل العراقيين منذ لحظته الأولى، ودفع ثمنه الشعب العراقي وما زال يدفع هذا الثمن. ومن هنا نجد أن البعض تستر خلف نقد هذا المسلسل من أجل البحث عن (براءة صدام)، وهو أمر مرفوض من قبلنا لأننا ننظر للتاريخ على أنه حوادث لا يمكن تجاهلها أو تحريفها أو نكرانها، ولا يمكن أن نعيد قراءة التاريخ من وجهة نظر البعض الذين ما زالوا يتغاضون النظر للتداعيات التي خلفها هذا الغزو سواء للعراق أو للكويت أو المنطقة برمتها.

إنني أجد أن البعض ما زال يحمل ترسبات الحقبة الماضية وثقافتها، وما زال ينظر بعين واحدة للتاريخ والأحداث التي جرت، وما زال البعض يحاول إحياء روح الشوفينية والظلم والقتل والعنف والحرب، روح رفضها الشعب العراقي وأيضا الشعب الكويتي، ومن ينظر للعلاقات العراقية - الكويتية بعد عام 2003 سيجد أنها الأكثر تميزا في علاقات العراق مع محيطه العربي، وهذا لم يأت من فراغ بل من قناعات مترسخة لدى العراق والكويت بأن يتم تجاوز الماضي والمضي قدما في بناء مستقبل مشرق للبلدين والشعبين الجارين.

وعلينا أن نقول لكل الذين ملأت أفكارهم صفحات الـ«فيس بوك» إن حب العراق لا يكون بالطريقة التي تريدونها، حب العراق لا يعني كره الآخرين وصناعة (أم معارك) جديدة يتغنى بها من أطربتهم أناشيد الحرب والموت وتلبستهم أصوات المدافع وزئير الطائرات، وحب العراق لا يعني أن صدام لم يغز الكويت، بل حب العراق الحقيقي يكمن في أن نتجاوز جميعا ما جرى لنا قبل أن يكون لغيرنا، غزو صدام للكويت نكبة للشعب العراقي قبل أن يكون نكبة للمنطقة برمتها.

* كاتبة عراقية