ميشال سماحة بين القضاء.. والقدر

TT

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه

فكل قرين بالمقارن مقتدي

(عدي بن زيد العبادي)

إنها فترة صعبة على المخلصين في إيمانهم بفكرة «المقاومة» في لبنان.

لا يهم عن أي «مقاومة» نتكلم.. ذلك أن كل لبناني عبر العقود القليلة الفائتة قاوم واقعا ما، وآمن بقضية ما رأى أنها تستحق حمل السلاح دفاعا عنها، وبالتالي السكوت عن تدمير مقومات المجتمع المدني و«دولة المؤسسات» من أجل ضمان انتصارها.

كانت الدماء، بما فيها دماء الأبرياء، ثمنا رخيصا لا مانع من دفعه في سبيل تحقيق الأحلام الكبيرة وشعاراتها السامية.

لقد صمت اللبنانيون طويلا على ظواهر مرَضية كالقتل على الهوية والسيارات المفخخة وتفجير البنايات على ساكنيها.. وصولا إلى التهجير القسري. وكانت ذريعة «الدفاع عن النفس» التبرير الجاهز دائما لهذا الصمت. ومن ثم، اعتاد اللبنانيون، على ما اصطلح على تسميته «الأمن بالتراضي» بين مؤسسات دولة هشة تحاول أن تبقي لها على نزر يسير من حضور هنا وهناك، وقوى أمر واقع تستفيد من المناخات الإقليمية والدولية المواتية.

النظام السوري، منذ تفجر الحرب اللبنانية عام 1975، كان لاعبا أساسيا في كل من الملعب اللبناني الداخلي والملعب الإقليمي الخارجي، بل ثمة من يقول إن تلاعب دمشق بالشأن اللبناني بدأ قبل ذلك بسنوات عديدة. وكان في صلب فلسفة حكام دمشق في ذلك الحين اعتبار «الحالة اللبنانية» حالة شاذة ناجمة عن «واقع التجزئة» الذي خلقته وخلفته «معاهدة سايكس - بيكو». وهذه المعاهدة وفق أدبيات حكام دمشق، الذين كانوا «عروبيين جدا» حتى «تعجمهم» في الأمس القريب، مزقت وحدة «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة».

وعام 1979 جاءت الثورة الخمينية في إيران حدثا مفصليا في تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وتركت تداعيات بنيوية على امتداد المنطقة. وعلى الصعيد العربي، كانت فكرة «تصدير الثورة» العمود الفقري لمشروع طهران الخمينية، وكان شعار المشروع - أو غطاء شرعيته - «تحرير فلسطين».

هنا لا بد من الإشارة إلى حقيقتين مهمتين:

الحقيقة الأولى، أن طموح طهران للهيمنة الإقليمية لم يبدأ مع ثورة الخميني.. إذ عمل الشاه محمد رضا بهلوي طويلا لكي يصبح القوة المهيمنة في منطقة الخليج الذي طالما اعتبره «فارسيا» - تماما كما يعتبره الخمينيون اليوم. وبلغ به الأمر إلى المطالبة علنا بالبحرين، التي كان يعتبرها جزءا من إمبراطوريته، تماما كما احتلت إيران في عهد الثورة الخمينية جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، ولا حاجة في هذه العجالة إلى الذهاب أبعد مع التاريخ للتطرق إلى ما حل بالمحمرة (عربستان).

والحقيقة الثانية، أن موضوع تحرير فلسطين، والمقاومة المسلحة في سبيل تحرير فلسطين ظلا جزءا من الخطاب السياسي العربي منذ 1948 وحتى اليوم. وحقا كانت هناك مقاومة فلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما كانت هناك مقاومة لبنانية وطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى عام 2000، ولكن في الحالتين تعرضت «المقاومتان» لتآمر جهات تريد «مقاومة» على هواها، ووفق مصالحها.. من دون اكتراث لا بفلسطين ولا بتحريرها ولا بشعبها. وفي لبنان، ساهمت فصائل لبنانية عديدة في واجب مقاومة الاحتلال قبل أن تقبل بنزع سلاحها تمهيدا لبناء الدولة، في حين احتفظت قوة وحيدة بسلاحها، ويتبين الآن أن الغاية من احتفاظها بالسلاح بعد تحرير جنوب لبنان - الذي يحتفل اللبنانيون به سنويا بصورة رسمية - هو منع بناء الدولة.

إذن، نحن باختصار أمام حقيقتين، هما الطموح الإيراني الإقليمي، والعمل على تعطيل قيام دول مدنية في المنطقة بحجة صرف كل الاهتمام نحو تحرير فلسطين. وفي حالة كهذه يفترض أن ترتعد فرائص إسرائيل خوفا فتبادر إلى اجتثاث أي نظام يمكن أن يشكل خطرا وجوديا عليها، ولكن ماذا كانت النتيجة حتى الآن؟

أولا، بتفاهم ضمني وعلني غريب أسقط نظام حكم ديكتاتوري وعائلي وبعثي كان يحكم العراق بالحديد والنار.. وجرى تسليم العراق، المحتل أميركيا.. إلى إيران!

ثانيا، صمتت المدافع على طول جبهة الجولان، حيث خط النار المفترض بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وجماعة الرفض والتصدي والممانعة والمقاومة منذ 1973، كما أحجم ثوريو طهران عن مهاجمة «الكيان الصهيوني» مع أن أحد جنرالات طهران بشرنا قبل أشهر بأن إيران قادرة على سحق إسرائيل خلال 11 يوما.. لا غير.

ثالثا، أكمل حزب الله اللبناني هيمنته على لبنان، منطلقا من فرض الحكومات بقوة السلاح إلى فرض قوانين انتخابات مفصلة على قياسه بحيث تكفل له تسريع الإطباق على باقي مفاصل الدولة، وهذا بالتوازي مع التوسع في شراء الأراضي والتمدد التوطيني في مناطق متعددة من لبنان.

رابعا، بعد ترحيب طهران - وتحت جناحيها حزب الله اللبناني ونظام الرئيس بشار الأسد في دمشق - بـ«الربيع العربي»، انقلبت عليه. واختارت شن حرب مفتوحة على الشعب السوري الثائر ضد حكم ديكتاتوري، وعائلي، وبعثي أيضا.. أي من طينة حكم صدام حسين التي دفعت طهران إلى التفاهم الضمني مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و«اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن على احتلال العراق، ومن ثم تسليمه لأتباعها!

عودة إلى لبنان، الكيان الأضعف إنما الأكثر شفافية في المنطقة. في لبنان تتضح اليوم معالم تآمر واضح وخطير.. فبعد تحالف حزب الله مع ميشال عون الذي تطوع قبل بضع سنوات للذهاب إلى واشنطن محرضا على «المقاومة» وسوريا برعاية شخصيات أميركية محسوبة على «اللوبي الإسرائيلي»، تجاهل حزب الله - الذي كان لبعض الوقت يعتبر عون ظاهرة إسرائيلية - تماما إدانة القضاء اللبناني أحد أبرز معاوني عون بالاتصال بالاستخبارات الإسرائيلية.. بل وثق صلاته بعون، وسعى وما زال يسعى لتعزيز وضعه في السلطة وضمن البيئة المسيحية في لبنان.

وبالأمس، من دون التدخل في شأن هو بين أيدي القضاء، تتكشف أمور خطيرة في الاتهام الموجه إلى النائب والوزير السابق ميشال سماحة، المقرب جدا من الرئيس السوري بشار الأسد، وبالتالي من حزب الله، واستطرادا من عون، والذي يتولى الدفاع عنه محام هو نجل اللواء جميل السيد، أبرز شخصيات ما عرف بـ«النظام الأمني السوري - اللبناني»، ثم إنه وفق «اعترافاته» الأولية اعترف بأن الجهة التي كلفته بمهمة التفجيرات التي أوقف بسببها.. اللواء علي المملوك، مدير مكتب الأمن الوطني في سوريا.

سماحة كان قد حذر قبل فترة من تخطيط «القاعدة» لتنفيذ تفجيرات داخل لبنان، إلا أن ما نسب إليه قوله أثناء التحقيق معه إن الرئيس السوري بشار الأسد شخصيا وراء المهمة الموكلة إليه.

مجددا.. القرار الحاسم حول براءة سماحة أو إدانته يظل في أيدي القضاء، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، غير أنه يجوز للراصد، من وجهة نظر سياسية بحتة، الربط بين التهمة الموجهة إلى النائب والوزير السابق و«انسجامه» المصلحي والسياسي مع جهات تعتمد القمع والقتل و«التشبيح» والتهجير «لغة» للتحاور مع الآخرين.

ميشال سماحة، اليوم، بالنسبة لكثيرين مدان بالشراكة.. لأنه قريب من أصحاب نهج تفجيري وفتنوي لا يتورع عن تدمير النسيج الاجتماعي والفئوي للمنطقة برمتها.. إنه جزء من مشروع فاشي تسلطي يرفض الحوار.. ولا يعترف بالمجتمع المدني.