الأحمري مرة أخرى

TT

الحق أنه لا ينقضي العجب من التبصر والتأمل في آراء وتحليلات الكاتب «القطري» محمد حامد الأحمري، وهو حصل على هذه الجنسية منذ فترة قريبة، بعد جنسيته السعودية.

حصوله على الجنسية القطرية أو غيرها هو محض حرية فردية، ولا جدال في حقه الشخصي هذا ولا يجوز المزايدة على أي شخص لمجرد تحصله على جنسية أخرى أو الإقامة في بلد آخر. على الأقل هذا رأيي الشخصي، لكن ما هو غير شخصي هو أن يقول الدكتور الأحمري في لقاء تلفزيوني مؤخرا، على شاشة «روتانا خليجية»، في برنامج ديني رمضاني، أشياء تتعلق بمرحلة عشناها كلنا، ويقدم تفسيرات تخصه هو، ولا تتصل أبدا بالواقع الذي عشناه.

شرّق الأحمري وغرّب في هذه المقابلة، وتحدث عن ولعه القديم بالحرية، وأن الحرية هي جوهر التقدم في كل المجالات، وأنها المفتاح الذي يفتح مغارة علي بابا الحضارية، وأن فقدانها هو سبب «كل تخلفنا» في السياسة، والاقتصاد، والعلوم، والمجتمع، كل شيء.. كل شيء.

من الواجب الحذر عندما يقدم لك شخص ما أمرا واحدا وحيدا على أنه حل لكل شيء، على طريقة بعض العطارين الذين يقدمون لك عشبة معينة على أنها تشفي أمراضا متعددة وصعبة، وأحيانا متناقضة، تحت هيبة اسم هذه العشبة وصعوبة إثبات عدم صحة هذه المزايا التي تنسب إليها، وهي طريقة أسميها طريقة الرهان المستحيل، كمن يقول لك: أتراهنني على أنه يوجد الآن في الكثيب رقم ألف، بداية من الركن الجنوبي للربع الخالي خمسة طيور حبارى واحد منها مكسور الساق يرعى تحت شجيرة صغيرة؟! طبعا لا يمكن إثبات صحة أو عدم صحة هذا الرهان «الآن» بسبب أنه لا يمكن لك ولا له التحقق «فورا» من صحة هذه الدعوى.. وهكذا الرهان على أن الحرية، هكذا بالمطلق، ستجلب لنا عسل الحضارة ومنّها.

على أن الأمر أهون من ذلك قليلا، فنحن رأينا كيف أن ثمة مجتمعات لديها تقدم واضح في الحريات السياسية والإعلامية لكنها ليست مقياسا مغريا للتقدم الاقتصادي أو حتى السياسي، بالمعنى العميق والسليم لهذا التقدم، وبعضها دول جارة لنا، ربما يغري البعض كثرة صخبها السياسي والإعلامي الذي بلا طحن.

ليس الغرض التوقف عند «كل» ما قاله الأحمري في هذا اللقاء، لكن لا يجوز تفويت أمرين اثنين، ولو بتعليق سريع: الأول بخصوص حديث الرجل المستفيض عن سحرية حل الحرية، والتعويل عليها بطريقة تمامية خلاصية، وهذه فكرة غير منتجة ولا سليمة من الطعن، فنحن رأينا مجتمعات أنتجت إبداعا وفنونا في ظل واقع لا يتسم بالحرية «السياسية» حسب مواصفات الدكتور الأحمري، في شرق العالم وغربه، وقديم التاريخ وحديثه. ثم أي حرية يقصدها الدكتور الأحمري هنا؟ هل هي الحرية بكل معانيها وشمولها، كما حصلت في سياقها الغربي، الذي لا تستطيع اجتزاء الحرية السياسية منه، لأنها تروقك، ثم تتغافل عن باقي مفردات الحرية، وهي كل لا يتجزأ؟

سبق للناقد السعودي علي العميم أن ناقش الدكتور الأحمري في مطالعة نقدية موسعة نشرت على حلقات في هذه الجريدة في منتصف مارس (آذار) 2012، ولم يتم الإشارة إلى أي جزء منها في اللقاء التلفزيوني المشار إليه هذا! وحتى الأحمري لم يناقش أو يرد على الناقد العميم، على الأقل من باب تشجيع ثقافة الحوار والنقد والنقد المضاد.. فهكذا يتعزز جو الحرية، وهكذا يتعمق البحث العلمي الذي أسف الدكتور على فقدانه في البيئة العلمية السعودية.

علي العميم، في مطالعته تلك توقف تحديدا عند مفهوم الحرية عند الأحمري، وكان مما استوقف العميم عدم وضوح مفهوم الحرية عند الأحمري، وقال معلقا على كلام الدكتور الذي قاله لبرنامج يقدمه المذيع علي الظفيري بقناة «الجزيرة» حينها، وتهربه عن سؤال المذيع عن حق المعتقد وحرية الدين: «الأحمري في إجابته عن هذا السؤال تجاهل الجزء الأول فيه، ويمم شطر الجزء الثاني، ليقول معلومة ابتدائية يعرفها حق المعرفة المسلم وغير المسلم، مفادها أن (قضية حرية الدين في المجتمع الإسلامي مضمونة).. ».

ثم يفسر العميم هذا «التدفق» لدى الأحمري في الحديث عن الحرية السياسية، والجفاف النقدي في ما عدا السياسة، قائلا: «هذه الإجابات المتحرجة المنقوصة المراوغة لا تتسق وحديثه في مبتدأ اللقاء غير المتردد وغير الهياب عن أهمية الحرية وضرورتها لنا في العالم العربي. ولا تتسق مع ما نعاه على ذلك الأستاذ الجامعي الذي كان يرغب في قراءة فاكس مرسل من معارضة عربية، لكنه خائف أن تبقى بصماته على الورق، فكان يأخذ منديلا ويرفع الورقة فاصلا بينه وبين الورقة الأخرى. هذا الأستاذ الجامعي المسكون بالخوف إلى هذه الدرجة نعى عليه هذا الأمر ووجه إليه وإلينا أسئلة تقريعية، فقال: (أي أمانة علمية.. أي موقف فكري.. أي موقف ثقافي يمكن أن يؤديه؟! أي مجتمع يعيش هذه الحالة؟!)».

ثم يخرج العميم من مطالعته الموسعة تلك، ويحسن الرجوع إليها للتوسع: «من الواضح أن للحرية عنده مجالا محددا، وأن إلحاحه عليها في السنوات المتأخرة جاء لغرض معين».

الفكرة الأخرى التي أثارت الدهشة في كلام الدكتور الأحمري هذا، في مقابلة قناة «روتانا خليجية» هي حين سأله أحد رواد «تويتر» عن رأيه - وهو المولع بالحرية - في اعتقال شاعر شعبي في قطر، من دون محاكمة منذ بضعة أشهر، وهو تحاشى التوسع في التعليق على هذا الأمر، كما توسع في غيره من القضايا - وأنا أحترم رغبته هذه، ولا مزايدة عليه - لكن لماذا تحول مباشرة، بعد كليمة أو كليمتين عن قصة الشاعر إلى الحديث الموسع عن السعودية وقضايا المعتقلين؟! ثم خرج بتحليل عجيب قال فيه إن سبب التطرف والعنف هو الاعتقال فقط، وصعد أكثر ليقول إن سبب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 هو القبض على مجموعة من قيادات التيار الصحوي في السعودية منتصف التسعينات، ومنهم سلمان العودة وسفر الحوالي! وقال إن كتاب «البروج المشيدة» للصحافي الأميركي لورانس رايت يقول هذا.

باختصار، وبعيدا عن عدم صحة إحالته لـ«البروج المشيدة»، هذا كلام متعسف وغير دقيق، بل متهور، وبلمحات سريعة نتذكر أن إرهاب جماعة جهيمان (1979)، لا علاقة له بالحرية السياسية وحملة الحقوق المدنية، كذلك الأمر، من قبل، مع حادثة جماعة (1965) واقتحام التلفزيون، وكذلك الأمر مع مفجري مبنى العليا (1995)، ناهيك عن سلسلة أعمال «القاعدة» في العالم العربي منذ أواخر التسعينات.

وفي اليمن لم يكن ثمة ملاحقة للمجاميع الجهادية، بل كان بعض رموزها في كنف الحكومة، ومع ذلك انفجر الإرهاب فيها، ومن يقرأ رسائل وأدبيات «القاعدة» في السعودية وغيرها لا يجد أي تغنٍّ بالحرية أو حتى توقف عند البعد الحقوقي المدني في الاعتقالات، ولكن يؤتى على ذكر الاعتقالات في سياق التحشيد والشيطنة للخصم، لكن ليست هي السبب الرئيسي للثورة، بل السبب الرئيسي للثورة عندهم هو السعي لإقامة الشريعة، وطرد الكفار، وإعلان الجهاد على المرتدين - أي الحكومات، حسب فهمهم لها - ولا ذكر أبدا لقصة الديمقراطية، ويبدو أن كتاب «فرسان تحت راية النبي» لأيمن الظواهري، الذي هجا فيه رجل «القاعدة» الديمقراطية هجاء مرا، لم يكن حاضرا في ذهن الأحمري وهو يتحدث بجمالية عن الحل السحري للحرية السحرية!

يبقى التذكير بأن الدكتور مرسي، مرشح إخوان مصر، الذي فاز، بطريقة انتخابية حرة، وعن طريق الديمقراطية، بكرسي الرئاسة، ويمارس الآن كل مزاياها بضراوة، قد أفرج عن مقاتلي الأمس من أبناء التيار الجهادي الأصولي، لكن هذا لم يشفع له لدى التيارات الجهادية في سيناء، فقصة هذه التيارات هي قصة أخرى غير حرية الأحمري أو ديمقراطية مرسي.

أي حرية يتحدث عنها القوم؟!

[email protected]