المؤامرة والحقيقة في رفح

TT

ما جرى قرب مدينة رفح وعند نقطة تعرف باسم «الماسورة» مذبحة لوحدة عسكرية مصرية ساعة إفطار رمضان. كان الهجوم وحشيا بمعنى الكلمة، حيث وجد في رأس واحد من الشهداء 30 طلقة، وكذلك كان الحال زاد أو قل مع باقي الشهداء. ولا أدري شخصيا ما الذي دار في رأس من قام بإطلاق النار، ولا ذلك الذي دار في رأس الشهيد بعد الطلقة الأولى التي لا بد أنه شاهد قاتله في تلك اللحظة الفارقة فعليا بين الحياة والموت. ولكن الحقيقة كانت في جوهرها أن «مجاهدين» دارت في رؤوسهم أفكار «إسلامية» تكفي للاقتناع بأن هذا الجندي المسلم المجند بحكم القانون، والمقبل من واحدة من تلك القرى أو الحواضر المصرية هو المسؤول شخصيا عن عدم تطبيق شرع الله. أو هكذا يعتقد القاتل الحال في مصر التي دينها الإسلام ومبادئ شريعته المصدر الرئيسي للتشريع، وفي الانتخابات الأخيرة تولى رئاستها الدكتور محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وللحق فإنني لم أفاجأ قيد أنملة بما جرى؛ ولكن ظلت «المفاجأة» باقية في تلك الحالة غير الإنسانية التي تعتري جماعة منا وتحولهم إلى وحوش مرعبة لا نجدها إلا في أفلام الرعب أو الخيال العلمي. مثل ذلك شاهدناه من قبل في الحرب الأهلية اللبنانية، وفى حرب الزرقاوي في العراق، وفى الحرب الضروس التي شنتها الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر، والتي يجرى تمثيلها بالجثث في شمال مالي الآن، وفى الصومال كل الوقت. جرت المجزرة في مصر هذه المرة وتم القتل والاستيلاء على عربتين مدرعتين ذهبتا في اتجاه الحدود الإسرائيلية حيث جرى اصطيادهما، ومن معهما من عربات رباعية الدفع، حيث تم قتل الجميع من قبل القوات الإسرائيلية، ولم تفلح مدافع المورتر والهاون في إنقاذهم.

بعد ذلك بدأت الحقائق في الظهور، وبدأت التعليقات عليها تبزغ في الفضائيات المصرية والعربية وكأن هناك جيوشا جاهزة من المعلقين لديهم «سيديهات» مسجلة تتعامل مع كل الحالات. كانت الحقيقة الأولى أن السلطات الأمنية الإسرائيلية عرفت بالحادث ومعلومات عنه كافية لكي تستعد هي ذاتها، ومن ثم تتعامل بكفاءة كاملة مع القوة المهاجمة بعد أن تخلصت من المصريين. هذه المعلومات ذاتها، وفى إطار التعاون الأمني بين البلدين، تم إبلاغها للسلطات المصرية التي تداولتها، وربما اتخذت إجراءات ما، ولكنها استثنت أن يحدث الهجوم على صائمين ساعة الإفطار.

بالطبع فإن ما قيل عن ذلك يجعلنا نتصور أن مؤسساتنا الأمنية تتعامل مع الأمر بالقطعة، وبالعملية، وليس مع أوضاع أمنية متدهورة منذ وقت بعيد يعود إلى أكثر من عشر سنوات، عندما بدأت عمليات حفر الأنفاق بين غزة الفلسطينية وسيناء المصرية.

جرى ما جرى وبعدها قامت الكتيبة الإعلامية في الحديث عن «المؤامرة» التي أدت إلى قتل 16 مصريا وجرح سبعة. وعادة فإن المعلق سوف يقول بوقار شديد في كل جريمة لا بد أن نبحث عن المستفيد، ولما كانت إسرائيل هي المستفيدة دائما من كل مصيبة تلم بنا فلا بد أنها وراء الحادث. الحاذق من المعلقين سوف يضيف إلى ما سبق «بطريق مباشر أو غير مباشر» أي أن الأمر سوف يكون إما بيد إسرائيلية مباشرة، أو من خلال تجنيد جماعة من العملاء يقومون بالمهمة. والدليل على ذلك كما قال يوسف أبو مرزوق وكذلك قناة «مصر 25» في القاهرة إن إسرائيل قامت بسحب مواطنيها من طابا ظهر اليوم السابق على العملية. وهكذا صارت العملية على الوجه التالي: إسرائيل تريد تدبير مؤامرة لإحراج الرئيس المصري، أو للوقيعة بين مصر وحماس وكلاهما محكوم بجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم فإنها تدبر مذبحة بيدها أو بيد غيرها، ولذا تقوم بسحب مواطنيها، وبعد المذبحة يتوجه المجرمون في اتجاه الحدود الإسرائيلية تقتلهم فردا وراء الآخر ومن ثم تضيع معالم الجريمة. فإذا ما أشرت إلى أن إسرائيل كان لديها المعلومات، ولكنها أخبرت السلطات المصرية بالأمر، فتكون الإجابة هي أن ذلك للتغطية على الدور الإسرائيلي الذي سحب مواطنيه، وكأنه كان مطلوبا من إسرائيل أن تبقي مواطنيها في ساحة الخطر حتى تثبت لجماعة المؤامرة أنه ليس لها يد في هذه المؤامرة على الأقل، وفوق ذلك تكون رفيقة بمن يهاجمها، فتترك جماعة من القتلة دون قتل، وكأنه من المعروف عن إسرائيل الرحمة.

لاحظ هنا ما تم إسقاطه من معلومات مؤكدة لم تكن السلطات المصرية تحتاج إسرائيل لمعرفتها. فالأنفاق موجودة منذ سنوات وبعد أن كانت حفنة قليلة صارت كما قالت مصادر مصرية بعد الحادث 1200 نفق على امتداد 14 كيلومترا تمثل طول الحدود المصرية الفلسطينية، أي 85 نفقا في كل كيلومتر. والمجاهدون يتراكمون في داخل سيناء في مجموعات قليلة قبل ثورة يناير، وبعدها ما كان قليلا صار كثيفا وكثيرا ومنظما بين جماعات ما أنزل الله بها من سلطان، حيث هناك جيش للإسلام، وآخر للجهاد الإسلامي، وجماعة «جلجلت» أعمالها في الأرض، وبعد ذلك جماعات أخرى. هذه الجماعات تعكس توجها لدى «السلفيات الجهادية» المتعددة في العودة إلى المنطقة من أول شمال مالي وحتى العراق مرورا بليبيا ومصر والصومال والسودان وسوريا وشمال لبنان. وهذه جميعها جاءها فيض من السلاح الذي نجم عن انهيار الدولة الليبية المتخمة به، والدولة السودانية التي انقسمت بعد حروب أهلية، والدولة الصومالية الفاشلة؛ كل ذلك بينما الجريمة المنظمة والمخدرات تروح وتجيء في المنطقة تمول وتقايض، وتمنع وتمنح، وتهدد وتقتل.

لم تكن الأنفاق وحدها مع «المجاهدين» موجودة، بل كان المدد مقبلا من أفغانستان وباكستان ومن السجون المصرية التي فتحت على مصراعيها أثناء الثورة. ومن ساعتها بدأت العمليات ترسل الرسائل المتفجرة، ولم يكن نسف أنابيب الغاز الذي وصل إلى 15 محاولة مجرد اعتراض على إرسال الوقود إلى إسرائيل، فقد كان يذهب إلى الأردن وسوريا وإسبانيا؛ ولكنه كان رسالة للدولة المصرية بأنه لا مكان لها في سيناء، ومن يعرف ما وراءها أيضا. كانت حركة الأنفاق تجري محمومة معلنة نفس الأمر بينما الاعتداءات مستمرة على قسم شرطة العريش، وأقسام الشرطة الأخرى، والاستيلاء على أموال البنوك والبريد في عمليات ملزمة يستخدم فيها السلاح وسط صيحات «الله أكبر» إعلانا على الانتصار في غزوة من غزوات الفتح. هل بعد ذلك يحتاج الأمر إلى «مؤامرة» أو «تآمر» أو «مفاجأة» للهجوم على الموقع العسكري في الماسورة أو في أماكن أخرى؟ أولم يكن كافيا خمسون عملية عسكرية متفرقة على مواقع عسكرية أخرى حتى ينتبه الجمع المصري ليس فقط العسكري ولكن المدني أيضا الذي تصور كل حديث عن الأمن القومي على أنه «فزاعة» أخرى أضافها النظام السابق لكي يضمن السيطرة والهيمنة؟