مجتمع خرج من نظامه

TT

يمكن القول أيضا، وبالمقابل: إنه نظام أخرج من مجتمعه، إذا ما أردنا تقديم وصف للوضع السوري الراهن من جانبيه الشعبي والرسمي، وإن كان القول الأكثر دقة يتلخص بالأحرى في كون المجتمع هو الذي خرج من النظام وعليه، بما أن النظم الشمولية تعمل لاحتواء مجتمعاتها، ولابتلاعها وإعادة صياغتها بالطرق التي تتفق مع مصالحها بوصفها نظما تعيد إنتاج الواقع من فوق، من رأسها، من الممسك الأعلى بها، الذي لا يطيق أن يكون هناك شعب مستقل عن إرادته، وأن يقاسمه أحد التحكم بمصير «شعبه»، ويؤمن أنه يستطيع إبقاءه راضخا له، بالشروط التي يحددها هو.

في البدء، يخرج المجتمع ببطء وبطرق غير منظورة غالبا من النظام الشمولي، قبل أن يخرجه من عالمه الخاص، مجتمعا يريد الحرية. هذه هي بصورة عامة الآلية التي عشناها في كل مكان أسقط المجتمع فيه نظاما شموليا محدثا أمنيا. لقد أمسك قادة هذا النظام بالمجتمع بأذرع أخطبوطية أوهمتهم أن سيطرتهم عليه غدت أبدية. ثم، وفي خطوة تالية غالبا ما تكون مباغتة، يخرج المجتمع الضعيف ظاهريا - ولكن القوي فعليا - من نظامه القوي ظاهريا - والضعيف عمليا - قبل أن يخرجه في طور تال منه، أي يسقطه ويتخلص من مؤسساته وهياكله وأبنائه ورموزه، ويحل محله نظاما بديلا ينهض على أسس وركائز مناقضة لأسسه وركائزه.

ومع أن هذه العملية لا تكون سريعة، ولا تتم بضربة واحدة، بل هي تشبه ولادة كيان جديد من داخل كيان قديم، فإننا نستطيع ملاحظتها في كل مكان من سوريا، حيث أبدعت عبقرية الشعب أشكالا من التعاون والتضامن لعبت دورا مهما في جعل قهره أمرا شبه مستحيل، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر تقاسم ما تمتلكه الأسر في المدن والقرى من أرزاق ومواد غذائية، وفي أحيان كثيرة في الأموال، بغض النظر عن درجة غنى أو فقر من يتقاسمون ما لديهم، فأنت ترى أسرة تمتلك مخزنا من المواد الغذائية تقدم مفاتيحه طواعية لأهل القرية أو الحي، وتهب كل ما فيه للمواطنين، الذين لا يملكون غالبا المال لدفع ثمن ما يحصلون عليه. يحدث الشيء ذاته بالنسبة إلى الدواء وغيره، حتى إن هناك قرى وأحياء تجمع ما لديها من مواد غذائية وتقدمه إلى النسوة اللواتي يقمن بإعداد طبخة جماعية يأكل منها الجميع، بغض النظر عن كونهم أسهموا أو لم يسهموا فيها. هكذا، يعيش الناس بفضل ما ابتدعوه من أشكال تضامن وغيرية، ويواصلون صمودهم بمعونة ما يقدم إليهم من مساعدات يومية. من ذلك مثلا ما كانت حماه تحصل عليه يوميا من خبز تأتيها به القرى والأرياف القريبة منها، التي كانت تمدها بعشرات أطنان الخبز كل يوم، فضلا عن المواد الغذائية والإغاثية الأخرى، التي مكنتها من الصمود طيلة عام ونصف العام، وجعلت نضالها ممكنا ومستمرا، شأنها في ذلك شأن حمص، وإدلب، ودير الزور، ودرعا، وسائر المدن والبلدات السورية، التي يكاد أهلها يتقاسمون كل شيء، لاتفاقهم على هدف كبير يخصهم جميعا هو إسقاط النظام، ولأنهم خرجوا معا من النظام وشرعوا يخرجونه من مجتمعهم، الذي يصير حرا بقوة تضامنه وتآزره.

ربما كان أفضل تعبير عن خروج المجتمع السوري من نظامه ما تأسس خلال الثورة من منظمات قاعدية تكفلت بإدارة مناطقها ديمقراطيا، وبالعمل على أنها سلطات بديلة لسلطة النظام المطرودة أو الهاربة. ثمة سلطة شعبية بديلة تنشأ في كل مكان بموافقة شعب ينتخبها بصورة مباشرة غالبا. هذه الخطوة كانت البداية الفعلية لخروج المجتمع من النظام ولإخراج النظام من المجتمع، وهي التي ضمنت للسوريين الاستمرار في العيش تحت الحصار الغذائي، وفي ظل قطع الكهرباء والماء لأيام طويلة، وأتاحت لهم النجاة من الفوضى التي أراد النظام زجهم فيها، سواء من خلال افتعال وإثارة مشكلات محلية، أم عبر ممارسة سياسات تمييزية تضغط على جهة وتحابي أخرى، تعرض مناطق للحرمان، وتغمر أخرى بالسلع والخدمات. عندما يقال اليوم إن السلطة خرجت من نصف سوريا، فهذا يعني أن هذا النصف يدار اليوم من قبل ممثلين اختارهم الشعب ومنحهم ثقته وكلفهم بخدمته، ريثما تنتصر الثورة وتشكل حكومة تتوافق عليها قوى المعارضة داخل سوريا وخارجها، إلى أن يحدث هذا، تقوم بمهام الحكومة هيئات محلية تعمل على مستوى القاع المجتمعي منتخبة من الشعب.

هاتان الوقعتان «فائقتا الأهمية» تؤكدان أن مجتمع سوريا خرج من نظامه، وأنه يخرج النظام المستبد منه، ويفقده وظيفته بعد أن تراكم فشله وساءت أوضاع سوريا في ظله بدل أن تتحسن، ونشأت هيئات قاعدية بديلة حلت محل أجهزته، مارست أساليب في الحكم والإدارة أكثر تطورا بكثير من أساليبه وقربا من مصالح الشعب وتلبية لها، فلا يعقل أن يعود نظام أثبت أنه متخلف ومعاد للشعب ليحل من جديد محل نظام أقامه الشعب بتضحيات جسيمة قدمها في سبيل الخلاص من حكم السلطة الجائر. ومن يراقب مظاهرات سوريا الأخيرة، سيضع يده على الحقيقة، وهي أن الشعب صار في واد والنظام في واد آخر، وأن مجرد نزول الناس إلى الشارع للمطالبة بإسقاط الرئيس أو نظامه، بعد قصف عنيف تتعرض له أحياؤهم، هو دليل دامغ على نهاية زمن وبداية آخر، فليس من المعقول أن يعرض الناس أنفسهم لقصف بالمدافع ولنيران القناصين وغيرهم، لو لم يكونوا على ثقة من أنهم صاروا في عالم غير ذاك الذي فرضته السلطة عليهم بالنار والحديد، ويخرجون منه بولادة عسيرة كلفتهم كثيرا من الأرواح البريئة وأنزلت بهم أفدح الخسائر.

تدخل سوريا إلى عالم ينتفي منه نظامها. ودخل المواطن السوري إلى زمن ما بعد الخوف، بينما دخل النظام القائم إلى زمن العجز فالسقوط، الذي تبدو ملامحه واضحة في كل شيء؛ من عقلية الناس وتصرفاتهم، إلى إفلاس السلطة وتهاويها. ولعله ليس من المبالغة في شيء القول: إن سوريا تقف اليوم على مشارف مستقبل يختلف عن كل ما عاشته خلال السنوات الخمسين الماضية، سيكون دور شعبها فيه مقررا، لأنه يصنعه بتضحيات تجل عن الوصف.