مؤتمر القمة بمكة والتحديات الجديدة

TT

تصدى مؤتمر القمة الذي دعا إليه بمكة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لأربعة أنواع من المشكلات، جديدة وقديمة في الوقت نفسه. وأولى هذه المشكلات العنف الذي تمارسه السلطة السورية ضد شعبها منذ سبعة عشر شهرا. وثانية تلك المشكلات مصائر القضية الفلسطينية بعد تجربة كل سبيل للمعالجة خلال نحو عشرين عاما منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، والمبادرة العربية للسلام بالقمة العربية ببيروت عام 2002. وثالثة تلك المشكلات العنف ضد الأقليات الإسلامية بآسيا وأفريقيا وبخاصة في ميانمار (بورما) على مدى السنوات الأخيرة. ورابعة تلك المشكلات النزاع (الشيعي – السني) المتصاعد منذ الغزو الأميركي للعراق، والسياسات الإيرانية تجاه العالم العربي وآسيا الوسطى وأفغانستان. وكما هو واضح من استعراض هذه المشكلات التي وردت في الخطاب الافتتاحي للملك الداعي؛ فإن بعض تلك المشكلات قديم. لكن طرائق المواجهة التقليدية ما أفادت في الوصول إلى معالجات أو مقاربات مجدية. ولذا فإن بعض هذه المشكلات جديد، وبعضها الآخر قديم، إنما ينبغي التصدي له بأساليب جديدة.

وقد نبه الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى ضرورات الأساليب الجديدة في المواجهة عندما دعا إلى إنشاء مؤسسة ومنتديات للحوار بين المذاهب الإسلامية لكشف أسباب التوترات ومعالجتها بالتشاور وحسن التفهم. والواقع أن الكامن وراء هذه الدعوة الحوارية ما ذكرناه باعتباره مشكلة رابعة من بين المشكلات التي يعانيها المسلمون، وهي التوتر (السني – الشيعي) بسبب السياسات الإيرانية الاستراتيجية من جهة، وظهور الإسلام السياسي السني من جهة ثانية. وهاتان الظاهرتان، أو هذه الظاهرة المزدوجة كانت موجودة من قبل، لكنها تفاقمت خلال العقد الأخير. فقد أيقظت إيران تنظيمات وحركات صحوة شيعية ودعمتها بالمال والسلاح والإمكانات، ولتحقيق غرضين: صُنع مناطق نفوذ في العالمين العربي والإسلامي. ومشاركة الولايات المتحدة في المنطقة العربية وما وراءها على حساب تغييب العرب، وتزعُّم المسلمين.

وقد كانت للمملكة مبادراتٌ من قبل لحديث استراتيجي مع إيران. لكن إيران استكبرت، واعتبرت أن الأميركيين وحدهم هم الذين يستحقون الحديث والتشارك. وقبل أيام كتب وزير الخارجية الإيراني مقالة في «واشنطن بوست» دعا فيها الولايات المتحدة للتعاون مع إيران في حل المشكلة في سوريا، على شاكلة تعاونهما في أفغانستان والعراق من قبل! والمملكة تقول لإيران وللمرة المائة إن هذا الأسلوب في التعامل لا يفيد، فالشعوب المستهدفة عربية، وتجتاحها حركات التغيير التي تأبى الخضوع للاستقطاب شعوبا وأنظمة. وعلى إيران أن تقرر الآن التوقف عن نشر الفرقة والانقسام، وتغذية الصراع (الشيعي – السني)؛ خاصة أن الإسلام السياسي المتصاعد الآن على إثر الثورات، هو في جزء منه رد على الإثارات الإيرانية، كما أنه في جزء منه رد على الاجتياحات الأميركية من قبل، ورد على حماية الولايات المتحدة وإيران لأنظمة الاستبداد في مشارق العالم العربي ومغاربه. في هذا الجزء السياسي والاستراتيجي إذن تحاول المملكة تطوير إجماع استراتيجي إسلامي لمنع التدخلات في دول العالم الإسلامي، ومنع التوترات بين السنة والشيعة ومحاصرتها، سواء بالحوار أو بالرفض الشعبي.

إنما والحق يقال؛ فإن إيران لا تنفرد بحماية النظام الاستبدادي والطائفي بسورية وبلدان أخرى، بل تدعمها في ذلك روسيا والصين. وهما الدولتان اللتان منعتا بالفيتو في مجلس الأمن الوصول إلى حل دولي لوقف سفك الدم والعنف المسلح من جانب نظام الأسد ضد شعبه. هناك إجماع عربي على تنحية النظام السوري. ويحصل الآن إجماع إسلامي. وإذا ظل الروس والصينيون والإيرانيون على موقفهم الداعم لنظام الأسد، فيمكن للعرب والمسلمين ومؤتمر أصدقاء سوريا (بالمغرب بعد أسبوعين) التدخل من خارج مجلس الأمن على الأقل لفرض مناطق آمنة لحماية الشعب السوري بالداخل. إنما وراء هذا وذاك؛ فإن مؤتمر القمة الإسلامية هو آخر الفرص لإيران لتغيير سياساتها تجاه جواريها العربي والإسلامي، أو يزداد عليها الحصار، وتغامر بزيادة ردود الفعل السنية المتشددة وغير الحميدة في زمن صعود الإسلام السياسي.

ما كان أحد من المسلمين، ولا من دول عدم الانحياز، يؤيد التدخل الخارجي ضد دولة مستقلة مهما كانت الأسباب. لكن الوضع في سوريا، وفي ليبيا من قبل، يفرض على العرب والمسلمين التفكير مرة أخرى، والمراجعة، والنظر بعيون جديدة إلى القانون الدولي الإنساني، والرؤية العالمية الإنسانية والإسلامية. لا يستطيع المسلمون الاكتفاء بالجلوس أمام شاشات التلفزيون كل مساء ومراقبة العنف الهائل من جانب النظام الأسدي ضد أبناء الشعب السوري. ثم يسمعون ويقرأون ما يقوله الروس والإيرانيون أنها مؤامرة كونية ضد نظام الممانعة، وأنهم سيتصدون لها بالسلاح إلى جانب النظام القاتل! ما عاد من الممكن التفكير بحل يسمى سياسيا بين النظام السوري وشعبه. لكن لإيران فرصة للانصراف عن سياسات بدأتها بمساعدة الأميركيين بأفغانستان والعراق، وبإيقاظ الخلايا المذهبية النائمة لنشر الانقسام في كل مكان بحجة مواجهة الإمبريالية. وقد عرض السعوديون في القمة الاستثنائية عليهم مبادرة ذات شقين: الكف عن سياسات المواجهة العنيفة، والذهاب إلى الحوار التضامني من جهة، والاستراتيجي من جهة ثانية لبحث كل القضايا.

ولإيران والولايات المتحدة (وكل على حدة) ضلع في استنزاف فلسطين وأهلها. فالولايات المتحدة تدعم إسرائيل بكل سبيل. وإيران قسمت في المرحلة الماضية، كلمة أهل فلسطين بحجة مكافحة الاحتلال الصهيوني. وإذا لم ترد إيران معاونة الفلسطينيين على التضامن والتوحد فلا أقل من الابتعاد عن سياسات الجهاد الفتنوي مباشرة أو بالواسطة؛ لأنها تضر بفلسطين وبمصر وبالناس الآمنين، ولا تساعد على إزالة الاحتلال وإقامة الدولة. وقد آن للمبادرة العربية للسلام أن تنجح أو تتوارى بعد أن خذلت الولايات المتحدة شعب فلسطين، كما خذلت روسيا والصين الشعب السوري. فالقضية الفلسطينية درس للعرب والمسلمين في ضرورة الاعتماد على النفس والتضامن الداخلي، ورفض سياسات الهيمنة والاستقطاب.

وقد ظل العرب لزمن طويل يقولون إن التشدد الواصل إلى حدود الإرهاب أهم أسبابه السياسات الإمبريالية والصهيونية. لكن آن الأوان أخيرا لمصارحة النفس والآخر، بأن التشدد له أسبابه الذاتية أيضا. فلا بد من مكافحة هذا التشدد في الصومال ومالي واليمن وسيناء وحيث يظهر. ولا بد من الأخذ على أيدي المتشددين بالدواخل العربية والإسلامية وتحت أي تسمية ظهروا أو تحركوا.

ولا شك أن الصراع المتصاعد بين المجتمعات الإسلامية وجوارها المسيحي أو البوذي بآسيا وأفريقيا له أسبابه المتعددة، لكن لا ينبغي تجاهل معاناة المدنيين مسلمين وغير مسلمين. ثم ينبغي أن تكون هناك فسحة اهتمام من جانب منظمة التعاون الإسلامي ومؤسساتها بعيش المسلمين مع غيرهم في هذا العالم، وقد قال أمين المنظمة في افتتاح القمة إن المسلمين يشكلون ربع سكان المعمورة!

إن دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لقمة انعقدت لمواجهة المشكلات، حركتها حكمة الشيوخ ورصانتهم وخبرتهم، وهمة الشباب وإقدامهم: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».