من يتعظ من فريد زكريا؟

TT

خلال الأيام القليلة الماضية وقعت قصة مهمة يجب على كل صحافي وكاتب عربي متابعتها بحرص، لأنها تقدم درسا كبيرا وعظة بالغة في القيم الأخلاقية الحاكمة لمهنة الإعلام، بل ونشاط الكتابة بشكل عام.

القصة باختصار هي أن «النجم» الإعلامي الأميركي فريد زكريا «سرق» فقرات من مقال لكاتبة أخرى، وضمنها مقالا له في مجلة «تايم» الشهيرة، حول مافيا السلاح في أميركا.

موقع ما على الإنترنت رصد هذه السرقة، وهي بالمناسبة بعض فقرات في المقال وليس كله! ثم انتشر الخبر، ولم يكابر زكريا، فقدم اعتذاره لمجلة «التايم»، التي علقت نشاطه مؤقتا، وكذلك فعلت قناة «سي إن إن»، التي يقدم زكريا فيها برنامجا شهيرا، ونحت نحوهما جريدة «واشنطن بوست».

لاحظوا ثقل هذه المؤسسات التي يعمل فيها زكريا، وشهرته وتاريخه العلمي والصحافي، ومع ذلك لم يشفع له هذا كله أمام هذه «الاستباحة» في حق القيم المهنية الحاكمة.

أجمل تعليق قرأته حول مشكلة فريد زكريا هو ما قاله الناقد والكاتب الأميركي ديفيد زوراويك، ونشرته صحيفة «الشرق الأوسط»، الأحد الماضي، بأن العقاب السريع والحاسم بسبب ما فعل زكريا لم يعد مفاجأة. وذلك لأن «الانتحال صار خطيئة صحافية مميتة، وغالبا ليس هناك خلاص منها». وأضاف «نظرا لعدم وجود قيم وأخلاق في الصحافة اليوم، صار الانتحال موضوعا مهما». وأيضا، بسبب الإنترنت الذي وفر معلومات كثيرة تغري الكتاب بنسخها. لكن الإنترنت - في الوقت نفسه - صار يسهل مهمة الذين يريدون كشف الكتاب الذي يسرقون».

نعم، تفشى هذا السلوك القبيح بسبب استسهال الكتابة، واستسهال الظهور الإعلامي، وكثرة المنابر، دعك من حسابات «تويتر» و«فيس بوك» والمدونات الشخصية، فتلك قصة أخرى، نتحدث فقط عن الشاشات والصحف المعتبرة، ذات المسؤولية، ففيها هذه الأيام العجب العجاب.

وسبب ذلك فعلا - كما لاحظ الناقد ديفيد زوراويك - هو انعدام القيم في المجال الصحافي وسهولة استخدام الإنترنت، فصار هناك من «يتقن» الأمر ومن لا يتقنه، من يعرف خلفيات القصة ومن لا يعرفها، من يدرك تاريخ هذا الحدث أو البلد أو الشخص أو التيار الحزبي، ومن لا يدركه، سواء في الكتابة والتعليق، فكل ما يكلف الأمر بالنسبة للباحث عن الحضور والشهرة هو نقرة زر على «غوغل» ثم الإبحار المتهور في لجج الإنترنت، وأخذ ما يتيسر أمامه، من دون تمييز أو إلمام بأبعاد القصة. فتساوى - ظلما وعدوانا - العارف والجاهل، سطحيا طبعا.

جوهر المشكلة في تقديري هو التكالب على الشهرة، والتقدير المبالغ فيه للذات واستباحة الكتابة، والخلط بين سهولة النقر على لوحة المفاتيح «الكيبورد» والنقر على لوحة العقل.

إنه زمن الاستسهال والخفة، لكن لعل في درس فريد زكريا جرس تنبيه، لمن هم أقل شأنا بكثير من زكريا عندنا، وأكثر سطوا وسرقة، وما زالوا يحظون بالتقدير في مجتمعات لا تبالي بوجوب إلغاء من يستبيح قيمة الكلمة والأمانة العلمية من التقدير الثقافي والإعلامي..

أختم بما ختم به الكاتب السعودي خلف الحربي تعليقا على هذا الأمر: «لا تحزن»..!

[email protected]