الوصية

TT

سكنت في أحد الفنادق، وكان معي «كاميرا تصوير» ثمينة، وحيث إنني لا أريد أن أحملها معي دائما كلما خرجت؛ خوفا عليها من العين، فقد أصبحت أخفيها بركن عميق في دولاب الملابس، وأضع عليها بعض الحاجات والأحذية زيادة في الإخفاء والتمويه خوفا من أن يسطو عليها بعض عمال التنظيف.

وفي أحد الأيام خرجت سريعا لأمر هام، وبعد ساعة تقريبا تذكرت أنني نسيت وتركت الكاميرا على «الكومدينو»، فرجعت سريعا للغرفة، ووجدت الخادم يرتب السرير بكل هدوء، ولم يكن هناك أي أثر للكاميرا، فجزمت أن ذلك الخادم قد «لطشها»، أي سرقها. ولاحظ هو ارتباكي وتعبيرات وجهي ونظراتي الاتهامية له، وقبل أن أتفوه نحوه بأي كلمة، إذا به يتجه إلى الدولاب ويفتحه، مشيرا بيده إلى كومة الحاجات والأحذية، واندفعت أبعثرها ووجدت الكاميرا تحتها لم يمسسها سوء.

ويبدو أن الخادم الذكي عرف مقدار حرصي وسذاجتي، لهذا أرجعها إلى مكانها لكي يعطيني درسا بليغا من حسن الظن بالآخرين، وفعلا عرفت أن سوء الظن إثم، وعرفت أيضا أن الموت يأتينا حتى لو كنا في بروج مشيدة، وكذلك كاميرات التصوير قد تأتيها السرقة مهما أخفيناها ووضعنا عليها الحاجات والأحذية.

وطوال الأيام الباقية لي في الفندق كنت أترك الكاميرا شاهرة ظاهرة، وكلما دخل علي أحد المستخدمين التقطت له بها صورة تحببا.

***

قرأت هذه المعلومة التي تقول: إن رجلا وزنه 70 كيلوغراما يحتوي جسمه على مقدار من الدهن يكفي لصنع سبع قطع من الصابون، ومن الكربون لصنع سبعة آلاف قلم رصاص، ومن الفسفور لصنع رؤوس 2200 عود ثقاب، ومن المغنسيوم لجرعة واحدة من الأملاح المسهلة، ومن الحديد لصنع مسمار وسط، ومن الجير لتبييض جدار مساحته 4×3 أمتار مربعة، ومن الماء لملء برميل سعته عشرة جالونات، ومن الكبريت لتطهير كلب واحد من البراغيث.

وحيث إن وزني هو 70 كيلوغراما، فقد أعجبتني الحكاية وحلت بعيني، وإنني بهذه المناسبة أوصي من مكاني هذا، وعلى رؤوس الأشهاد قائلا: إنني إذا متّ، بعد عمر طويل إن شاء الله، فإنني أرجو أن يخضع جسمي لهذا الفرز الخلاق، لكي أموت وأنا مرتاح الضمير، بعد أن أكون قد قدمت على الأقل شيئا ماديا نافعا للجميع، سواء كانوا من البشر، أو كانوا من الحيوانات.

***

انقطعت الكهرباء فجأة في منزلي في هذا الصيف القائظ، وبعد جهد جهيد استطعت أن أحصل على رقم الصيانة في شركة الكهرباء.

وأخذت أتصل على الرقم المشغول لمدة نصف ساعة تقريبا، وأخيرا رد علي المسؤول، وأخذت أشكو له وأنوح، وأنا أشرشر عرقا، واستفسر هو مني عن العنوان، ثم سألني فجأة: «هل لديك في منزلك ثلاجة؟»!

الواقع أنني تعجبت من سؤاله الفج هذا، وقبل أن أجيبه قال لي: «إذا كان في ثلاجتك (آيس كريم)، اذهب سريعا وكله قبل أن يسيح». قال ذلك ثم أغلق السماعة في وجهي، وأحسست بالإهانة، ومن شدة غضبي حاولت الاتصال به لأرد له الصاع صاعين على استخفافه بي، ولكن دون جدوى لأن الخط ظل مشغولا، وعندما تعبت ويئست اتجهت لاشعوريا إلى الثلاجة لكي أطفئ غليلي بالـ«آيس كريم»، وما إن فتحت بابها حتى تذكرت أنني ما زلت في شهر رمضان. لا أكذب عليكم، فقد انكسر خاطري قليلا، ولكنني سرعان ما انتبهت إلى حالي، فحمدت الله كثيرا قائلا من أعماق قلبي: اللهم إني صائم.

[email protected]