بشار وبوتين.. رد الجميل المكروه

TT

كانت روسيا بوتين تعيش في صيف عام 2008 ظروفا تشبه بعض الشيء ظروف سوريا بشار الأسد في عام 2011 - 2012. ففي جمهورية جورجيا التي في إحدى بلداتها وُلد ستالين، والتي كانت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي إحدى جمهوريات الإمبراطورية السوفياتية الماركسية، حدثت أزمة كتلك الصحوات المتواصلة التي حدثت في درعا ودير الزور وحمص وحماه ودمشق وحلب، وإن كانت المنطلقات اختلفت، فاختار بوتين لإسكات هذه الأزمة ما اختاره الرئيس بشار، حيث بدأ الجيش الروسي برا وجوا يلاحق الدولة الجورجية، من دون أن يخالجه شعور بالشفقة على أطفال ومسنين كانوا يتساقطون ولا سبيل لسحب جثثهم من الشوارع أو من تحت أنقاض بيوت دمرها القصف البوتيني الشبيه بالقصف البشاري لمناطق في سوريا، مع فارق أن بوتين يستهدف شعبا لا ينتمي إليه، في حين أن بشار الأسد هو رئيس الدولة، وأن الذين تستهدفهم مدفعية وحدات من الجيش السوري وطائرا ت من السلاح الجوي هم أبناء الشعب السوري.

وكمثال على بشاعة القصف الروسي الجورجي فإن المراسلين الذين كانوا يغطون الهجمة البوتينية على جورجيا ذكروا في تقاريرهم لوكالات الأنباء والصحف والفضائيات رسائل جاء في بعضها الآتي «إنه أمر مروع. إن الشوارع ملأى بالأنقاض والزجاج المحطم. الجثث لا تزال متناثرة هنا وهناك، كما أن العشرات ما زالوا مدفونين تحت الكتل الخرسانية والمعدنية. ومع تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية تدافع السكان للعثور على الماء والطعام في الوقت الذي ظلت فيه نيران المدفعية تدوي. ونقل الأطباء في مستشفى محلي المرضى إلى قبو خافت الضوء بعد أن أحدثت الانفجارات فتحات كبيرة في الطوابق العليا. وقال أحد الأطباء: (ليس لدينا ما نعطيه لهم ليأكلوه. نقدّم ما لدينا من خبز قليل إلى المسنين لأنهم الأشد احتياجا. لقد تعرض كل شيء للدمار ولا شيء يعمل، حتى المشرحة لا تعمل)».

هذا الذي بدأه بوتين حربا شرسة على جورجيا يتكرر فصولا في سوريا، وانتهى إلى جولات من التشاور في مجلس الأمن. وفي هذا الصدد قال المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة ردا على ما إذا كانت روسيا تسعى إلى تغيير النظام في جورجيا «إن هناك زعماء (رئيس جورجيا ساكاشفيلي) باتوا يمثلون عقبة، وأحيانا يتعين على هؤلاء الزعماء التفكير بشأن مدى فائدتهم لشعوبهم..».

مناسبة هذا الاستحضار للفعل البوتيني بجورجيا التي تجرأت على الزعامة الروسية، ليست فقط بعض أوجه التشابه بين الذي فعله بوتين وما كرره بشار الأسد بعد أربع سنوات في سوريا، وإنما لأن الرئيس السوري وقف زمنذاك مؤيدا الفعل البوتيني، معتبرا على ما بدا كثير الوضوح أن جورجيا بالنسبة إلى روسيا مثل لبنان بالنسبة إلى سوريا: فهما دولتان منسلختان وكل منهما (بوتين وبشار) يتطلع إلى استعادتهما. ولم يقتصر الأمر على التأييد السياسي وإنما أهدى بشار الأسد صديقه بوتين بحر طرطوس لتكون فيه بضعة أميال تستقر وتجوب فوقها وربما تحت الماء قطع من الأسطول الروسي. وهذه الهدية البشارية باتت المنشأة الوحيدة لروسيا في المنطقة، ذلك أن مرفأ طرطوس يجعل سفن الأسطول الروسي التي تجوب مياه المتوسط لا تضطر للعودة إلى الموانئ الروسية على ضفاف البحر الأسود، وإنما تجد الملاذ تحت الشمس الدافئة في سوريا وفي قاعدة متطورة على ضفاف البحر الأبيض.

في ضوء ذلك، هل الموقف الروسي الراهن من المحنة التي يواجهها الرئيس بشار، وهو موقف معطِّل من خلال استعمال «الفيتو» عند كل تصويت على أي مشروع قرار لتسوية متوازنة، هو رد جميل روسي على موقف الرئيس بشار، وهو ما يعني أنه كان يدرك ومنذ أكثر من خمس سنوات أن الأزمة الداخلية في سوريا واردة لا شك في ذلك؟ أم أن التعطيل هو للمزيد من التوغل الروسي في الأزمة السورية، وبالتوافق مع الرئيس بشار، وبحيث ينطبق على ذلك قول الأخير في مقابلة مع التلفزيون الإيراني قبل أربع سنوات «إن الحرب الباردة قائمة بالفعل، وإن على روسيا ألا تواجه هذه الحرب من داخل حدودها فقط؟..».

بصرف النظر عما هي عليه الإجابة، وهل هناك عملية استدراج تمت، بمعنى أن بشار الأسد استدرج بوتين من خلال أزمة جورجيا وأن الرئيس الروسي يوظف الأزمة السورية لمزيد من استدراج بشار الأسد إلى معاهدة يتحول الساحل السوري بموجبها إلى خط روسي متربص للوجود الأميركي - الأوروبي في دول الخليج... بصرف النظر عن الإجابة فإن وقوف الرئيس بشار مع بوتين في أزمة جورجيا كان ضد مصلحة سوريا، وأن الموقف الروسي طوال الأزمة التي يعيشها نظام الرئيس بشار الأسد كان لمصلحة روسيا وليس دعما له. وأما إذا كان الأمر هو مجرد تبادل رد الجمائل فإنه من النوع المكروه، لأن الجمائل تكون لدرء الخطر عن البلاد والعباد، وليس لإشعال الأوطان حرائق.