محور المقاومة والممانعة.. في مهب الريح

TT

«ما خفي أعظم» ذلك ما يقوله من يقرأ اعترافات ميشال سماحة، التي لم تأت بجديد للثوار السوريين، فقد باتوا يدركون أن للأسد إصبعا في أي اقتتال طائفي أو مشروع حرب أهلية بالمنطقة، بما فيها الجارة الهشة، لكن توثيق الشكوك يضيف إلى الحديث نكهة خاصة. الأهم أن الأسد الذي يتلقى اليوم الصفعة تلو الأخرى، قد اهتزت هيبته في حديقته الخلفية لبنان، فمن كان يتوقع اعتقال أحد أزلامه فيها، سواء كان ميشال سماحة أو غيره، بقرارها الداخلي، واتهام علي مملوك أحد أذرعه الأمنية، بالتخطيط لأعمال إرهابية في لبنان، أيضا بقرارها الداخلي. لقد فقد الأسد سطوته، التي حافظ عليها، بفضل مخلبه اللبناني حزب الله، حتى بعد اندحار قواته منها عام 2005، إثر جريمة اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني آنذاك.

وفي سوريا، فإن أكثر من نصف مساحة البلاد بات يسيطر عليها الجيش السوري الحر، ولا تطالها قوات الأسد، إلا عبر القصف الجوي أو الأرضي البعيد. أصبح يتجنب الاشتباك المباشر في عدة مناطق، فجيشه منغمس بمعركة حلب، وقبل وأثناء حلب، ما زال يترنح على وقع الانشقاقات، التي طالت قيادات أمنية وعسكرية بارزة، ورفيق الدرب العميد مناف طلاس، انشقاقات في السلك الدبلوماسي أيضا، ورئيس حكومته رياض حجاب، يقضى شهرين فقط في منصبه، ثم ينشق عنه. لمن لا يعلم، فإن رئيس الوزراء في سوريا، منصب تجميلي، يتفوق أي ضابط بالأمن على صلاحيات حكومته برمتها، لكن له وقعا سياسيا وشرخا يطال صورة الأسد في الداخل والخارج، وله دلالة على تقلص الدائرة التي بات من الممكن للأسد أن يوليها ثقته، ولم يخرج اجتماعه مع جليلي ممثل خامنئي، عن ذلك الإطار، فقد غاب عنه السوريون، ليحتله الإيرانيون.

من زاوية أخرى، لا تقل إيلاما للأسد، فإن فقدان سيطرة النظام على معابر حدودية مهمة مع تركيا والعراق.. تزايد استحواذ الجيش الحر على مخازن الأسلحة، وعدد من الآليات والأسلحة الثقيلة.. انهيار السيطرة الأمنية والعسكرية كليا في حلب وجزئيا في دمشق.. صور ضباط النظام الذين يعتقلهم الجيش السوري الحر.. جثة آصف شوكت ومن مات معه في تفجير مبنى الأمن القومي.. لا بد تراود دائرته المقربة من جلاوزة النظام ورموز القتل والموت، تلك الكوابيس مع نظرة عامة على المشهد ككل، قد تدفع بعضا منهم، لحزم حقائبه بحثا عن ملجأ آمن، يؤمن له مأوى وخزينة يضع فيها حصيلة سنين من الفساد، أوقد تدفع بعضهم لتنفيذ انقلاب، في حال حصلوا على بعض الضمانات، وتوفر ضامن يحظى بثقتهم.

لقد استشعرت المجسات الإيرانية الوضع الحرج، لحليفها الاستراتيجي الأهم في المنطقة، فحركت دبلوماسيتها المحدودة، جليلي في دمشق وبيروت، وصالحي قصد أنقرة، واجتماع تشاوري هزيل في طهران، جمع حلفاء الأسد وبعض الدول الأخرى، لكنه لم يحظ من المشاركين بتمثيل يليق بهدفه، في تشكيل محور مضاد لمجموعة أصدقاء سوريا.

يبدو أن ترس الفيتو الروسي لم يعد كافيا لتغطية الأسد سياسيا على الأقل، مما استدعى تحركا إيرانيا، أكد بمجمله على الحوار بين النظام والمعارضة، بل تحدث صالحي وزير الخارجية الإيراني عن استعداد بلاده لاستضافة «محادثات جادة وشاملة» للتوسط بين الطرفين، لكن من يثق اليوم بالرعاية الإيرانية، التي ما زالت تصر على أن رحيل الأسد خط أحمر.

في العالم الآخر، يبدو أن الغرب قد بدأ يولي الجيش الحر اهتماما إعلاميا، على حساب حصة المعارضة السياسية. وعلى الرغم من تلكؤ الخطوات وضبابية ما يراد منها وما سينتج عنها، إلا أن كلينتون تحدثت من تركيا عن أن إقامة مناطق حظر جوي قيد الدراسة، وهيغ تحدث عن أن مبعوثه لدى المعارضة، الذي وصفه بأنه بمستوى «سفير»، سيلتقي أعضاء سياسيين في الجيش الحر، ويوحي الحديث الغربي المتزايد عن تورط حزب الله وإيران بدعم فاعل لنظام الأسد، والعقوبات التي تطال كليهما، أن الأمور بدأت تسمى بمسمياتها الحقيقية، لكن الفرنسيين أكدوا على لسان هولاند، أن لا تحرك عسكريا خارج مجلس الأمن، لتبدو المحصلة وكأنها محاولة محدودة وبطيئة، لكنْ، استعدادا لتطورات باتت محتملة.

الحدود السورية متوترة، فحشود الجيش التركي على الحدود الشمالية، وصفت بأنها توازي أو تفوق، الحشود إبان الأزمة بين البلدين عام 1998، والتي دفعت الأسد الأب، عندما شم رائحة البارود، أن يتخلى عن ورقة أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، فسلمه إلى تركيا، ووقع اتفاق أضنة. الاشتباكات المتكررة على الحدود الأردنية السورية، تجعلها أيضا جبهة غير مستقرة.

لا يبدو الأسد في وضع جيد، ولا تبدو الأمور في طريق الانفراج السريع، على الرغم من جسامة الأحداث. يبقى أن الأسد، بات يدرك تضاؤل فرصه، وتفسخ نظامه، في ظروف ليست مواتية داخليا وخارجيا لإعلان دويلته، التي نفترض أنه يسعى إليها. القرار الإيراني سيرسم المرحلة المقبلة، الحرب الإقليمية التي لا يمكن التنبؤ بتبعاتها، قد تساعد مرحليا بتصدير أزمات إيران الداخلية، وتخلط الأوراق على طاولة ساخنة، لكنها تبدو أقرب إلى تهديدات ضمنية، يجري الاستعداد لها واستحضار مسوغاتها مع وقف التنفيذ، فالأسد الذي أخلى المناطق الكردية لصالح حزب العمال الكردستاني وحلفائه، يدرك جيدا أن اتفاق أضنة، يسمح لأنقرة بتعقب أعدائها في أراضيه، لمسافة تزيد على عشرة كيلومترات. من المؤكد أن قرارا بهذا الحجم، يحمل بصمات إيرانية.

لم يبق الكثير بيد الأسد وحلفائه، ليصبح أفضل المتاح، إطالة أمد الصراع، وتحويله لحرب أهلية طائفية شاملة، عبر جر لبنان إلى تلك الساحة فيساهم بتغذيته وتعقيده، ويؤمن لحزب الله انخراطا أكبر، في شأن يراد له أن يكون سوريا لبنانيا مشتركا، وربما عراقيا.

لقد حقن السوريون لعقود بمورفين الممانعة، الذي لم يمانع إلا رغبات السوريين واللبنانيين في التحرر.. لتتعرى الكذبة، فيسقط ميشال سماحة في قبضة شعبة المعلومات اللبنانية.. ويتعرى الشركاء في دم بريء، فتهوي على مرأى من التاريخ ورقة الفضيلة والأخلاق.

* كاتب سوري