ميداليات الأولمبياد: الذهبية و«المصدية»

TT

الأولمبياد الثلاثون الذي نظمته لندن بشكل أثار إعجاب العالم، وربما غيرة أمم أغنى وأقوى وأكبر من المملكة المتحدة، فيه دروس يمكن أن تستفيد منها الأمم الناطقة بالعربية، وعموم المسلمين، من وقائع أزالت خرافات، وقدمت صورا من التعاون وممارسات الحرية التي تطلق قدرات الأفراد على الإبداع لبلوغ ما يعتبر مستحيلا.

وربما لاحظ القراء مدى تنوع لون البشرة والأصل العرقي للمتسابقين البريطانيين الفائزين بـ65 ميدالية (29 ذهبية، 17 فضية و19 برونزية)، واضعين بريطانيا في المركز الثالث بعد أميركا والصين..

بطل اللحظة التاريخية كان العداء مو (التدليل الإنجليزي لمحمد) فاراح في المائة متر الأخيرة لسباق خمسة آلاف متر، وحناجر الأغلبية البريطانية من 80 ألف متفرج تزأر تشجيعا لمواطنهم الأسمر البشرة، الأفريقي المولد المسلم العقيدة، ليفوز بذهبية ثانية، أسبوعا بعد الأولى في سباق 10 آلاف متر.

عشرون عاما بعد وصوله من جيبوتي طفلا صوماليا في الثامنة لا يعرف كلمة بالإنجليزية، انطلق مو (محمد) فاراح، البريطاني الثقافة والتدريب والجنسية، ملتحفا براية الاتحاد Union Jack (علم بريطانيا) والتلفزيون ينقل لقطات وجوه رئيس الوزراء، والأمير هاري، وزوجة الأمير ويليام، وعمدة لندن ومشاهير بريطانيا واقفين يصيحون تشجيعا لمو الذي «أحس بأصوات بريطانيا كمحرك يدفعه نحو خط الفوز».

الصحافة الشعبية كـ«الصن» و«الديلي ستار» خرجت بمانشيتات تفتخر بالبطل البريطاني لتضع مسمارا آخر في نعش خرافة «عداء الصحافة البريطانية للإسلام والمسلمين» التي روجها أئمة الكراهية ودعاة الإرهاب لإذكاء نار العداوة بين البشر.

لم نقرأ أو نسمع كلمة أشارت إلى مسقط رأس فاراح، أو دينه، أو لهجة نطقه، توحي بعدم قبوله كبريطاني، كما فعلت صحف عربية.

مثلا بريطانيا تعرف أشهر ملاكمي القرن الـ20 الأميركي بمحمد علي (كان من حملة علم الأولمبياد في الاستعراض الافتتاحي الذي بهر العالم)، بينما تسميه الصحافة العربية «محمد علي كلاي». الملاكم كاسيوس كلاي اعتنق الإسلام قبل نصف قرن وأصبح في الأوراق الرسمية وصحافة العالم محمد علي ما عدا الصحافة العربية، فلا تزال تسميه «كلاي». اسأل أي بريطاني أو أوروبي دون الأربعين سيعرف من هو محمد علي الملاكم، ولن تجد بينهم من سمع بـ«كلاي».

وهنا درس الاندماج. انظر لأربعمائة ونيف رياضي ورياضية مثلوا بريطانيا في الأولمبياد فستجد ألوانا وخلفيات ثقافية وعرقيات متعددة لا يعرفون سوى أنهم بريطانيو الجنسية والهوية. هذه الاحتضان inclusion ضما الجميع كان أحد أهم أسباب نجاح بريطانيا الباهر، سواء في الرياضة، أو الإبداع الذي رأيناه في استعرض الافتتاح، وفي حفل الختام الذي استعرض إبداعات وإنجازات بريطانيا في مجال الفنون والثقافة والموسيقى، حيث كان الراقصون والمطربون والمطربات أيضا انعكاسا للتعددية العرقية من أصول إغريقية وأفريقية وآسيوية وأوروبية.

مصر عرفت التأثير الإيجابي للاندماج العرقي، فنهضة مصر (بدأها حضاريا جيل النهضة وأستاذه أحمد لطفي السيد في الجامعة الأهلية 1901) بلغت أوجها عقب ثورة 1919 بمشاركة مصريين وسودانيين ومهاجرين متعددي الأديان، أفارقة وآسيويين وأوروبيين. جهودهم الجماعية أفرزت نهضة ثقافية صناعية فنية اقتصادية، كان الجميع مصريين يفتخرون بمصريتهم. كثيرهم لم يتقن العربية لكنه يتفاخر بهويته كمواطن في مملكة مصر والسودان.

الملاحظ تلازم التدهور الاقتصادي والتخلف الحضاري لمصر زمنيا مع انعزالية العسكر exclusion؛ خاصة باستيلاء العسكر على ممتلكات مصريين وطنيين وطردهم خارج البلاد بحجة أنهم يهود الديانة أو لجنسيات آبائهم الأوروبية.

وبينما استعبد النظام الشمولي في الصين مئات الآلاف في أولمبياد بكين لإبهار العالم بالضخامة، فإن جهود 70 ألف متطوع ومتطوعة ما بين السادسة عشرة والسادسة والستين عملوا مجانا لعب دوره في حفر أولمبياد لندن علامته على ذاكرة التاريخ.

وقف المتطوعون في القرية الأوليمبية، وأماكن النشاط الرياضي الأخرى المنتشرة خارج العاصمة، في محطات القطارات ومراكز التجمع السكاني، لمساعدة الزوار كفاترينة تعرض أفضل ما في بريطانيا.

عندما أعلن المنظمون عن الحاجة لمتطوعين (يتلقون فقط ساندويتشات الغداء، ومصاريف الانتقال، أما عملهم فمن دون أجر) تقدم ربع مليون انتقي منهم 70 ألفا متعددو العرقيات والخلفية الثقافية واللغات، لكنهم جميعا من رعايا الملكة.

العمل التطوعي مكون ثقافي اجتماعي عميق متأصل في الضمير الجماعي للأمة البريطانية، سواء قراءة الروايات للمرضى في المستشفيات، أو قيادة السيدات العجائز في نزهة يوم الأحد، أو تنسيق الحدائق العامة. ومحلات الهدايا والزهور والصحف في المستشفيات الضخمة، ومكتب إرشاد الزوار في أقسامها يديرها متطوعون من المحالين للمعاشات من الجنسين. وأمام المدارس الابتدائية تصادف رجلا أو امرأة بمعطف أصفر وإشارة stop «قف» في شكل lollypop أو حلوى المصاصة، ولذا يعرف بسيدة أو رجل المصاصة، يتطوع بإيقاف حركة المرور كل مرة يعبر فيها الأطفال الطريق إلى باب المدرسة، ويقف ساعة في الصباح وساعة عند الخروج ولا يتقاضى أجرا من أحد. وبريطانيا هي أكثر دول العالم المتقدم توفيرا للمتطوعين لبلدان العالم الفقيرة. ممرضات، وأطباء، ومعلمين وخبراء زراعة، بعشرات الآلاف لا يتقاضون أجرا ويقدمون الخدمة مجانا للشعوب الأقل حظا.

روح الاستمتاع بالعمل التطوعي وإرضاء النفس بمساعدة الآخرين، ربما كانت أضخم ميدالية ذهبية كسبها 70 ألف متطوع بريطاني في سباق حب الإنسانية في أولمبياد لندن.

استعراض الافتتاح الفني الذي حكى تاريخ بريطانيا وإنجازاتها في كل المجالات لم ينافسه إلا حفل الختام، الذي كان مسليا ساخرا مضحكا فيه لمسة eccentricity (غرابة التصرفات) أهم ملامح الشخصية البريطانية.

أسماء من عمالقة الموسيقى الشعبية التي تطرب العالم، واسكتشات الكوميديا التي تبين ثراء بريطانيا في مجالات الإبداع والثقافة الفنية وإنجازات العلوم والطب وتصميم الأزياء والسينما والكتب، حيث يبلغ إنتاج الإبداع الفني والثقافي والذهني في بريطانيا أكثر من مليون ونصف المليون عمل يوميا.

ولعل أهم أسباب انطلاق الإبداع غياب الرقابة، خاصة رقابة الإنسان الذاتية على نفسه، فلا يمكن للفنان أو المثقف أو الموسيقار أن ينمي طاقة إبداعه بينما يقيد موهبته في زنزانة الرقابة الذاتية بسبب عقد نفسية غرستها مؤسسات المجتمع (الأسرة، التعليم، النظام الاقتصادي، الحكومة) في وجدان الفرد فخنقت روح الإبداع.

فتوظيف عمل هذه المؤسسات نحو خدمة الفرد، وتسهيل وضع أقدامه على طريق المستقبل، واستثمار وقتها وجهودها لسعادته ورفاهيته وليس لضعته في قوالب عجزت المؤسسات عن تطويرها، هو الفارق بين مجتمعات الإبداع والنجاح في تحقيق ما يبدو مستحيلا، وبين مجتمعات تفوز بميدالية «الصفيح المصدي» في التقهقر.