لبنان والدولة المؤقتة!

TT

مشهد سوريالي ولكنه لبناني بامتياز وتعودنا عليه ومللناه. مجموعة تظهر فجأة، سواء أكانت حزبا أو ميليشيا أو عشيرة أو جماعة تتجرأ وترفع صوتها ويدها على الدولة وعلى الشعب، مما يهدد ويعطل أحوال الناس ويشل البلد ويدخله في حسبة مجهولة بلا عقوبة ولا رادع من الجهات الرسمية. المشهد الأخير الذي حصل في لبنان أثار الذعر عندما «قررت» مجموعة الانتقام لأحد الأفراد المخطوفين في سوريا والمنتمين إليها أن «تثأر» له، فقامت بخطف مجموعة عشوائية من السوريين الموجودين في لبنان، وكذلك سعودي وتركي بحسب الروايات، وأيضا قامت هذه المجموعة بقطع الطريق الوحيد لمطار بيروت (وهو المطار الوحيد بلبنان)، وبذلك يشل حركة البلاد. هذه ليست من علامات ولا أعراض الدول الضعيفة ولا الدول الهشة، ولكنها أعراض وعلامات الدول المؤقتة. لبنان حصل «نظريا» على الاستقلال من فرنسا في الأربعينات من القرن الماضي، ولكنه فعليا ظل لديه العقلية والذهنية التي وصفها المفكر العبقري الراحل مالك بن نبي «القابلية للاستعمار»، فهو دوما يسعى بعقله السياسي الباطن أن يكون «مقادا» من الآخرين، فلا يمكن إلا أن يكون تابعا للأم الحنون فرنسا حينا أو الشقيقة سوريا حينا آخر. مع عدم إغفال أن هناك جزءا كبيرا من المجتمع اللبناني نفسه غير مقتنع بفكرة دولة لبنان، وأن هذا الكيان مقتطع ويجب أن يكون للوطن الأم سوريا، فهو يتعامل مع لبنان كله على أنه فكرة مؤقتة، وبالتالي لا توجد لديه القناعة ولا الاعتقاد الكافي بالدولة اللبنانية الذي يولد بالتالي الاحترام والهيبة. وهناك فصائل أخرى تعتقد أن لبنان مرجعيته فرنسية أوروبية متوسطية ذات تاريخ فينيقي بحت، وعليه فإنه «غلطة» جغرافية يجب إصلاحها ثقافيا وسياسيا، ليجيء الآن فصيل جديد ومهم وصاحب حضور لافت وثقل لا يمكن إغفاله يعتقد وبإصرار كبير أن لبنان يجب أن يكون جزءا من الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وتكون المرجعية السياسية للبنان مقرها طهران. كلها نماذج لانعدام الثقة في فكرة «لبنان» كدولة وككيان مستقل وتأكيد لتكريس ذهنية الاستعمار مهما بدت علامات التحضر والتمدن والتغني بشعارات لبنان الوطن.

في لبنان عندما يصفون الحال السياسية فيها بظاهرة «اللبننة» فهم يشرحون حالا أعمق من مجرد اقتتال أهلي بين الطوائف والفرق والمذاهب والأحزاب، إنهم يصفون وضعا شاذا تكون فيه المجموعة أو الفرد أو الحزب أو الميليشيا أو العائلة أهم من الدولة ورئيسها وكل أجهزتها، ومظاهر ذلك المشهد مليئة وتؤكدها بشتى الأشكال. وهي حالة أدت إلى استشراء الفساد والرشوة والمحسوبية والواسطة وغياب تام لسلطة القانون وفعالية أجهزة الدولة التنفيذية وقدرتها على تطبيق النظام. هذه حال الدولة المؤقتة التي تنتظر وتترقب من يلتهمها ويخلصها من همها ويقودها إلى بر الأمان أو إلى أي بر في هذه الحالة.

وقفت الدولة العاجزة مغلوبة على أمرها وسط كمّ لا ينتهي من التهديد والتطاول عليها من مجاميع محسوبة على كل الأطياف، ولكن سياسة سعة الصدر وطول البال لم يكن لها إلا نتيجة واحدة، وهي سقوط الهيبة وانعدام الثقة تماما في الدولة اللبنانية والاعتماد على أطراف أخرى لإنجاز المطلوب، أيا كان ذلك المطلوب. لبنان بلد ظُلِم بساسته فصاروا أبشع ما في هذا البلد الجميل، واستمرار ساسته على هذا النهج اللبناني المميز لن يكون له سوى عودة «استعمار» رسمي للبنان على أيد جديدة، والأيام بيننا. ولكن كل ما أستطيع أن أؤكده أن جل العرب ملوا وسئموا من مسلسلات ساسة لبنان التي تحولت إلى أداة ابتزاز واستغلال، فالذي لا يخاف على بلاده لا ينتظر أن يخاف عليها غيره أكثر منه.

[email protected]