على النار لا الهواء

TT

عشنا مساء الأربعاء الماضي طرازا جديدا من الصحافة التي تسمى الآن الإعلام. مراسلو التلفزيونات المحلية يطوفون على خاطفي الرهائن ويستصرحون، مباشرة، كل من يلتقونه. وكل من يلتقونه يهدد الدولة والدول العربية والحلف الأطلسي ويعد بمفاجآت أخرى. تنافست المحطات دون هوادة. وصرخ المذيعون في وجه الوزراء. وأعلنوا وفاة المخطوفين اللبنانيين في سوريا ثم عادوا فأعلنوا حياتهم في بلد مقيم على عود ثقاب.

أصغر تهديد أطلقه آخر مستصرح مجهول الهوية كان بذبح المخطوفين. والكاميرا كانت تسمع وتذيع. وبدت صورة لبنان مرعبة في الداخل وموحشة في الخارج. وفي اليوم التالي، تبين أن كل ما قيل عن حال المخطوفين في سوريا غير صحيح، لا جزئيا ولا كليا. وتبين أن المحطات كانت تشارك في مهرجان مفرقعات دموية ومدمرة. وأن مكاتب الأخبار لم تدقق في أي سبق أو حريق أو غازات سامة أطلقتها على بلد مريض أصلا، وينتظر ما بين جناح الطوارئ وغرفة العناية غير الفائقة.

سمى الزميل نبيل بومنصف في «النهار» ما حدث «بالفتنة المتلفزة». لكنها في ساعتها كانت أسوأ من ذلك، بوجهيها، العفوي والخبيث المدفوع. أسوأ بمعنى أفظع من الفتنة لأنها كانت خالية من أي مهنية ومتجاهلة لأي ضوابط أخلاقية. ولا أقول وطنية لأن هذا تعبير لم يعد يعني شيئا في لبنان، بل صار تهمة منفرة لكثرة ما استخدمه بائعو الأرض والجثث والأرواح، بالجملة والتجزئة.

الفتنة لا يصنعها الصحافيون عموما بل السياسيون. لكن الصحافة تتفتح في نارها منذ اختراعها. ولذلك، اعتبرت سلطة من سلطات الدولة. وكان رؤساء أميركا يطلعون رؤساء تحرير الصحف الوطنية على قرارات الحرب قبل الوزراء، بسبب تأثيرهم في الناس. أي إن دور الصحافة في الحالات الكبرى هو الالتزام الوطني وليس تحقيق السبق الصحافي.

السبق مسألة تافهة أمام حياة الناس ومصائرهم وأرزاقهم. ليلة كاملة والتلفزيونات تعطي عن لبنان صورة بلد يعيش في القرون الوسطى ويتكلم لغتها ويتصرف بسلوكها، خصوصا في الإعلام. كل من عنده حجر يلقيه على رأس لبنان تولت الكاميرا رشقه عنه. وكل من حمل تنكة زيت لرميها على نار لبنان صورته المحطات خطيبا زعيما وقائدا يشرفنا الإصغاء إليه.

ماذا كان في إمكان المحطات أن تفعل؟ أن تسكت؟ أن تدير وجهها؟ لا. أن تغطي كل حدث وتطور وأن تنقل جميع وجهات النظر. ولكن ليس جميع التفاهات واللامسؤوليات وكل من عثرت عليه على زاوية شارع أو تقاطع طريق. مجرد صياح لا يمثل أحدا ولا شيئا، لكنه يساعد في حشو الفراغ المباشر الذي صار أفظع من الحقيقة.