عذابات السوريين في مهب «فقدان السيطرة»

TT

* «من يريد أن يراشق بالحجارة حقا.. لا يختار حجرا كبيرا».

(مثل لبناني)

* بشر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مستمعيه في خطبة ألقاها يوم الجمعة الماضي بمناسبة «يوم القدس» في طهران بأن إسرائيل «ورم سرطاني سيزول قريبا».. وأن «دول المنطقة ستنهي قريبا وجود المغتصبين الصهاينة على أرض فلسطين». وخلال أقل من يومين، أدلى محسن رضائي، أمين سر مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق لـ«الحرس الثوري» والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، بدلوه.. فقال إن منطقة الشرق الأوسط تشهد الآن «الشوط الأخير من المباراة» الذي ستحدد نتيجته المواجهة الحاصلة في سوريا. وتابع «إذا وقعت تلك البلاد بين أيدي الأميركيين فإن حركة الصحوة الإسلامية ستتحول إلى حركة أميركية، لكن إذا حافظت سوريا على سياستها فإن الصحوة الإسلامية ستتجذر في الإسلام». ثم فصّل موضحا «إذا بقيت سوريا مستقلة ولم تقع بين أيدي الأميركيين والمحتلين (الغربيين) فإن الصحوة الإسلامية في المنطقة ستتجه إلى الإسلام». وأيضا، كي لا يكون هناك أي لبس في موقف طهران الرسمي، نقل عن رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية الجنرال حسن فيروز آبادي قوله إن «الولايات المتحدة وبريطانيا والصهاينة يستخدمون (القاعدة) والجماعات التكفيرية لإضرام الحرب الأهلية في سوريا.. لكن عليهم أن يعلموا أنه يوما ما سيصبحون أنفسهم هدفا لتلك الجماعات». وكان الجنرال عطاء الله صالحي، قائد الجيش الإيراني، قد قال قبلا في تصريح له إن إيران «قادرة على سحق إسرائيل في غضون 11 يوما إذا تعرضت ذات يوم لهجوم إسرائيلي».

كل هذا يوحي بوجود «منطق سياسي ما» وراء هذا التصعيد الكلامي.

قد يكون وراء كلام من هذا النوع خلق حالة من البلبلة داخل إسرائيل. وواضح أن الخلاف «العلني» الذي ظهر خلال الأسبوع الفائت بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس الدولة شيمعون بيريس بسبب قول بيريس إن إسرائيل لا تستطيع توجيه ضربة إلى إيران من دون تعاون أميركي، يشير جزئيا إلى اختلاف، على الأقل، في التصور التكتيكي لنظرة مؤسسة السلطة في تل أبيب إزاء شروط «التعايش» مع إيران كقوة إقليمية كبرى وجارة تقاسمها حدودها.

ثم إن القيادة الإيرانية، ربما تكون مغرورة أو متغطرسة، وأيضا قد تكون مغامرة، لكنها حتما ليست غبية.

طهران تدرك جيدا أسلوب واشنطن في العمل السياسي. وإذا كان لنا أن نتذكر، فعلينا تذكر أن عددا من وزراء خارجية إيران في عهد «الجمهورية الإسلامية» (تحديدا، صادق قطب زاده وعلي أكبر ولايتي وكمال خرازي والوزير الحالي علي أكبر صالحي) درسوا وعاشوا في الولايات المتحدة ويفهمون نهج التفكير الأميركي، ولكن أولا وقبل أي شيء آخر يعرفون حجم الولايات المتحدة السياسي والمادي والعسكري. هؤلاء جميعا يدركون تماما أن التكلفة والمكاسب - لا المبادئ - تحتل رأس أولويات تعاطي واشنطن مع أي ملف دولي.

ثم إن إيران «الخمينية» تعاملت مرارا مع «الشيطان الأكبر»، ويجوز القول إنها استفادت من ذلك التعاون، بدءا من فضيحة «إيران كونترا» وانتهاء - لتاريخه - بتسليم العراق أرضا وشعبا لما يمكن وصفه بالمشروع الإقليمي الإيراني الكبير الذي أخذ يستفز ردود فعل مذهبية وشوفينية معادلتين بالتطرف والحدة.. ولكن في الاتجاه المعاكس.

أكثر من هذا، وبخلاف الانطباع السائد بأن رد الفعل الطبيعي على طروحات مشروع «الولي الفقيه» يتجسد عبر الفصائل الجهادية والسلفية السنية، نجد أن بعض الفصائل السنية المتشددة تقتات من أموال إيران، وبالتالي تضرب بسيفها في غير مكان. وهذا الوضع المرتبك في الساحات الإسلامية السنية اليوم يبدو جليا وخطيرا في غير مكان واحد.. منها على سبيل المثال لا الحصر مصر وقطاع غزة.

ثم إن هذا الارتباك، الذي يأخذ أحيانا طابع المزايدة في الراديكالية يتغلغل اليوم أكثر فأكثر في سوريا بعدما سقطت الجدران السلطوية وانهار السقف الأمني. ومن ثم، غدا هذا التغلغل مبررا جاهزا للقوى الغربية التي ما كانت في الأصل متحمسة لتغيير نظام بشار الأسد، ضامن الهدنة الدائمة مع إسرائيل، للامتناع عن تقديم المساعدات النوعية للثورة السورية. وهذا طبعا يضاف إلى الموقفين الروسي والصيني اللذين يتخذان من صراعيهما الداخليين مع «الإسلام السياسي» ذريعة لتغطية دعمهما الكبير لإيران.. من منطلق ابتزاز الأحادية الأميركية وإنهاكها.

وهنا لا بد من التمعن قليلا ببعض مقولات الساسة والدبلوماسيين الروس والصينيين - وكذلك حتى بعض الساسة الغربيين من وقت لآخر - حول خطر «الإسلام السياسي» في سوريا إذا أسقط نظام الأسد بالقوة.

أولا، هذا الكلام يتجاهل أن نظام دمشق يستند إلى دعم نظام إيراني يتباهى بأنه يمثل «الإسلام السياسي». وكلام محسن رضائي في الفقرات الأولى من هذا المقال واضح وقاطع لا يحتاج إلى تفسير.

ثانيا، تتجاهل موسكو وبكين أنه كلما طالت الأزمة السورية مع بقاء النظام ازدادت صلابة عود «الإسلام السياسي» وازدادت راديكاليته وصدقيته ورغبته في الانتقام.. بل إنه مع مسيرة الانهيار الطويل والمؤلم لكيان الدولة في سوريا ستشرع الأبواب أكثر لكل من هبّ ودبّ من الفصائل الراديكالية الهامشية المتشددة للتسلل إلى الساحة الداخلية.. وممارسة شبقها الدموي والتدميري فيها.

ثالثا، إن نظام دمشق جعل منذ زمن بعيد أكذوبة «حماية الأقليات من غول التطرف» عنوانا لشرعيته السياسية المشكوك فيها. وهو بعدما انكشف زيفها ميدانيا على أرض لبنان حيث لم تنج أقلية واحدة من تنكيله، ها هو يمارسها داخل سوريا مجازفا بتوريط الأقليات السورية بمعارك انتحارية لا طائل منها.

الحصيلة الوحيدة الناجمة عن هذه «الحالة الرمادية» هي، كما جاء بالأمس على لسان السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، «فقدان السيطرة».. نعم «فقدان السيطرة».. أو هكذا يراد لنا أن نصدق.

نصر الله قال بالأمس في سياق تبريري - تهديدي إن حزب الله لا يسيطر على تحركات الجماعات المحسوبة عليه مذهبيا وسياسيا في موضوع الخطف وقطع الطرق والتجاوزات من شتى الأنواع. وذلك في إشارة إلى إقدام عشيرة آل المقداد على خطف مواطنين سوريين وأتراك ردا على خطف أحد أبناء العشيرة في سوريا. والخطير في كلام السيد نصر الله، الذي كان يعي جيدا أبعاد كلامه بدليل قوله «افهموه كما شئتم»، أن «الحزب» أوجد في الشارع اللبناني - والشيعي، بالذات - مزاج هيمنة واستعلاء.. وها هو يحاول الآن رفع مسؤوليته، المعنوية على الأقل، عما يمكن أن يجره هذا المزاج وتبعاته.

المشكلة مع «رفع المسؤولية» حيث لا بد من «تحمل المسؤولية».. فكيف يمكن الاقتناع بأن «الحزب»، وهو قوة أمنية وعسكرية تملك الصواريخ الموجهة إلى أهداف محددة في عمق إسرائيل، وتتمتع بقاعدة ولاء مذهبي عريضة.. عاجز إلى هذا الحد عن ضبط عشيرة محلية؟!

وبالمناسبة، «فقدان السيطرة» موجود أيضا على الجانب الإسرائيلي.. فهل صحيح حقا ما تقوله إسرائيل عن أمن سوريا.. أو ما تهدد به في موضوع إيران؟