المحروسة يسهل حكمها وتصعب إدارتها

TT

تعاقبت السلالات الفرعونية الحاكمة ألوف السنين. فمصر يسهل حكمها، لكن ما من سلالة دامت واستقرت، بما في ذلك سلالة الهكسوس القادمة من سيناء. فمصر تصعب إدارتها. عرّبها العرب. أسلموها. فحكموها بيسر وسهولة. ثم سلموا إدارتها إلى مماليكهم. فصعبت إدارتها على الألبان. الشركس. الكرد. أسلست مصر قيادها للسلالة الاستعمارية الأوروبية. فتمردت السلالات العسكرية الوطنية.

أجلى جمال عبد الناصر الإنجليز (معاهدة 1954). بنى السد العالي. فغرقت الحرية. أجلى وريثه السلالة الناصرية السلطوية. توسمت السلالة الساداتية الخير بالسلالة الإخوانية. فقتلت السلالة الجهادية/ التكفيرية الرئيس السادات في احتفال عسكري مهيب. حكمت السلالة المباركية المحروسة بسهولة ثلاثين سنة. عندما فكرت كليوباترة بتوريث إدارتها لأبنائها، تمردت المحروسة. فسقط قيصر خلال 17 يوما.

حكمت السلالة العسكرية الرابعة مصر الانتفاضة أيضا بسهولة. أدارتها بصعوبة. فخطفت السلالة الإخوانية الانتفاضة من شبابها. ثم خطفت الحكم، بسهولة عجيبة، من السلالة المشيرية.

«الشعب يريد ترحيل العسكر». رحل العسكر. هل السلالة الإخوانية قادرة على إدارة المحروسة بالسهولة التي أمنت فيها لنفسها شرعية «الحاكمية»؟ في يوم الجمعة، هناك مليونية ليبرالية. يسارية. في ميدان التحرير سوف تهتف: «الشعب يريد إسقاط الإخوان». أفتى عدد من المشايخ بإهراق دم المليونية المقبلة.. وربما يتم الاستعانة بالميليشيا الإخوانية لتنفيذ «الحلال»، وخاصة أنها استنفرت عشية ترحيله العسكر، لإحباط أي تحرك عسكري ضده.

بترحيله العسكر، استعاد الرئيس مرسي هيبته وحدِّيته الشخصية واسترد هيبته الرئاسية. لكن لماذا تنعقد مليونية ضده؟ ولماذا هناك ساسة. أحزاب. قوى شبابية، مستعدة للتحرك ضده؟

لأن شطرا واسعا من القوى الشعبية والسياسية، وجد الرئيس مرسي ممسكا بخناق السلطة التنفيذية بقبضة. وبالقبضة الأخرى يمسك بزمارة رقبة السلطة التشريعية. وربما يطمح أيضا إلى الهيمنة على السلطة القضائية، بعدما أدخل الإعلام بيت الطاعة، بتغيير رؤساء الصحف الرسمية (القومية). وتهديد. وضرب. بل وسحل صحافيين. وكتّاب. ومعلقين. ومثقفين. وفنانين، تجمهروا محتجين أمام قصور الرئاسة.

أين التحول من الثورة إلى الدولة؟ المرجعيات الإخوانية لم تعد تستعجل ترحيل المرحلة الانتقالية. فالرئيس مرسي أصبح «حاكما بأمره». وهو يتمتع ببركة المرشد ومكتب الإرشاد. ولا شك أنهما ساهما في التخطيط معه لترحيل العسكر. ولولاهما لما فكر أو استطاع الرئيس مرسي ترحيل السلالة العسكرية، بكل هذا الدهاء. ومكر التجربة السياسية الإخوانية العريقة.

لكن هل الرئيس مرسي أيضا «حاكم بأمر الله»؟! هل تأجيل الانتقال إلى «الدولة المدنية الدستورية» التي وعد بها في «المانيفستو» الذي خاض على أساسه الانتخابات الرئاسية، يكمن وراءه مشروع لدولة إخوانية؟

المفكر المصري المعروف الدكتور محمد السيد سليم كشف النقاب (أهرام 13 أغسطس/ آب الحالي) عن خطاب للرئيس مرسي ألقاه في احتفالية «ختم القرآن» يوم 5 الحالي، ولم ينشر، وشبه حالة مصر الراهنة بحالة إنشاء النبي الكريم «للدولة الإسلامية» في المدينة المنورة. ومن ثم فإن المهمة الأولى في التعامل مع «المجتمع الجاهلي» هي «إعادة صياغته ليكون دولة إسلامية».

ويضيف الدكتور سليم أن الدولة الإسلامية تحتاج إلى «سلطة مطلقة». ويسأل عما إذا كان تجميع كل السلطات في يده يندرج في برنامج تأسيس هذه الدولة. على كل حال، وعد الرئيس مرسي بعدم اللجوء إلى السلطة التشريعية. لكن الباحث المصري يذكر الإخوان بأنه ليس من «صحيح الدين» أن يتعهد الرئيس بشيء، أثناء حملته الانتخابية، ثم يعود ليطرح برنامجا آخر.

ليس لي تعليق على تفسير الدكتور سيد سليم لما قاله الرئيس. إنما الأمر الذي يجب أن يخيف الديمقراطية المصرية الوليدة هي «عسكرة» الإخوان، وذلك بإجبار القيادة العسكرية الجديدة للجيش، على فتح باب الانتساب في الكليات العسكرية أمام الأجيال الشبابية الإخوانية.

القيادة العسكرية الجديدة ليست «إخوانية»، غير أنها مدينة، بتجاوز القيادة السابقة المترهلة والأكبر عمرا، إلى إخوان الرئيس مرسي، الأمر الذي قد يمنح الإخوان فرصة تنفيذ أي مشروع سياسي أو ديني لهم، بالقوة في الحاضر والمستقبل.

في إطار أسلمة أميركا للانتفاضات العربية، وتمليكها للإسلام السياسي، وفي مقدمته الإسلام الإخواني، فقد ساهمت إدارة أوباما مع الرئيس مرسي وقيادة الإخوان، في تمرير التغيير العسكري في مصر، بأقل غبار ممكن. والأرجح أن أميركا هي التي أقنعت إسرائيل بالقبول بدفع قوات مدرعة وجوية مصرية، لخوض حرب الرئيس مرسي، ضد إمارة سينائستان الجهادية.

وفي هذا الإطار أيضا، تبدو إدارة أوباما غير قلقة من كون القيادات العسكرية الجديدة، أكثر تقى. وتدينا. ومسايرة للرئيس مرسي والإخوان. وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي هو الذي شغل نفسه بالتدقيق في عذرية فتيات مليونيات ميدان التحرير، عندما كان مديرا للمخابرات الحربية. أما الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان الجديد، فهو الذي نصح إدارة أوباما، بإدراج الدين في صميم المشروع الأميركي المراهن على الإسلام السياسي والإخواني، في المنطقة العربية.

الأطرف في نصيحة الفريق صدقي صبحي لإدارة أوباما أنه يلح عليها في الانسحاب من الخليج! إذا كانت هذه هي حال التفكير الاستراتيجي المصري في العصر الإخواني، فكيف يمكن لعرب الخليج والمشرق مواجهة الاختراق الفارسي؟

الأغرب أن الرئيس مرسي كحَّل نصيحة رئيس أركانه، فأصابها بالعمى. فها هو يدعو إيران إلى مشاركة العرب في تقرير مصير عروبة سوريا! نعم، إيران التي تعلن أنها لن تسمح بإسقاط نظام الأسد. وتعتزم تشكيل ميليشيا من المرتزقة للقتال إلى جانبه! إيران هذه مدعوة للعثور على حل عربي!

يبقى المضحك المبكي أن الأمم المتحدة، أوكلت للدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي مهمة تنفيذ ما فشل في تحقيقه سلفه كوفي أنان! ماذا فعل كوفي؟ نجح في المحافظة على فشله شهورا، لمنح نظام الأسد أكبر فسحة من الوقت، للقضاء على الانتفاضة. كم يبدو هذا العالم عادلا: فرصة جديدة لمبعوث عربي، هذا المرة، لحرمان الثورة السورية من تحقيق نصرها الأخير الذي بذلت لأجله حياة ودماء 23 ألف قتيل.

شكرا للرئيس مرسي. وكل عام ومصر بخير.