عن دوامة العنف في سوريا!

TT

ثمة جديد بدأ يسم الثورة السورية، حيث باتت قعقعة السلاح تعلو على أي صوت، وتواترت الهتافات المؤيدة للجيش الحر، كما صارت أخباره في الدفاع عن بعض المناطق تحتل الحيز الأكبر من الاهتمام الإعلامي.

أسباب هذا التحول متعددة ومتضافرة، وتتحمل السلطة الحاكمة المسؤولية الأولى والرئيسية، من خلال إصرارها على إنكار مطالب الناس وإظهارهم كأدوات تآمرية وطائفية يحل سحقهم واستمرارها في القمع العنيف والمعمم واستخدام أشنع الممارسات الاستفزازية لشحن الغرائز والانفعالات وردود الفعل الثأرية، والغرض إجبار الناس على تهميش الحقل السياسي والتخلي عن السلمية لصالح منطق القوة والغلبة، كي تسوغ لنفسها خيار العنف وتشرعن القهر والقمع بذريعة مواجهة الإرهاب وعصاباته المسلحة وبدعوى الحفاظ على الأمن وحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، وهو ما تقصدته حين زجت الجيش في المواجهة وورطت كتائبه في قمع المحتجين، مما أضاع فرصة الرهان على دور حيادي له، ومهد الطريق لنشوء الجيش السوري الحر كإطار جديد يضم الضباط والجنود المنشقين أو الفارين الذين وقفوا مع الحراك الشعبي ورفضوا إطلاق الرصاص على أهلهم.

نعم، لقد تراجع النهج السلمي للثورة تحت وطأة الخسائر الفادحة التي تكبدها الناس، من دون أن يقطفوا ثمارا مستحقة أو نتائج ذات مغذى لقاء رهانهم على هذا النهج، ولكن إضافة إلى مسؤولية النظام ثمة عوامل عديدة شجعت اللجوء إلى السلاح من أهمها:

أولا، عدم حصول تحول حاسم لقطاعات مهمة من المجتمع لا تزال خائفة ومترددة لأسباب عديدة ومحجمة عن الانخراط في عملية التغيير وتستسلم لتشويش ومبالغات في قراءة أحوال الثورة ومآلاتها، عززها تأخر مشاركة بعض المناطق جراء تفاوت المعاناة وتباين الاستعداد لكسر جدار الخوف، زاد الطين بلة تنامي مخاوف بعض الأقليات من فوز الإسلاميين بعد تجربتي تونس ومصر، وتحسبها من مظاهر التضييق والتنميط المرافقة لهذا النوع من الحكومات، التي تحاول عادة فرض أسلوب حياتها وثقافتها على المجتمع، وتهدد هوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها!

ثانيا، واقع المعارضة السورية التي لم تستطع كسب ثقة الناس وطمأنة الرأي العام، ولا تزال ضعيفة التأثير على الحراك الشعبي ومقصرة في إبداع أشكال وخطط من النضال السلمي كفيلة بتبديل المشهد والتوازنات القائمة، وهي ثغرة كبيرة في ثورة كالثورة السورية، جاءت مفاجئة وعفوية، ونهضت من دون قوى سياسية تقودها، وطبعا لم يشف الغليل السلمي للثائرين النجاح الجزئي لخطة الإضراب العام ثم إضراب التجار في مدينتي دمشق وحلب والذي يفترض البناء عليه لإيصاله إلى عصيان مدني شامل.

ثالثا، فشل الرهان على دور النضال السلمي في استجرار دعم خارجي عربي أو أممي قادر على التدخل لوقف العنف والقمع المعمم وفرض مسارات سياسية لمعالجة الأوضاع المتفاقمة، ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها فشل المبادرة العربية وخطة كوفي أنان، وعجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار لحماية المدنيين السوريين بسبب تكرار «الفيتو» الروسي - الصيني، فضلا عن النتائج الهزيلة التي توصلت إليها مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري، مما أفقد المحتجين صبرهم وهز ثقتهم بجدوى البحث عن داعم لهم، ومع عدم جدوى المناشدات لحماية المدنيين وفرض حظر جوي أو منطقة آمنة، صارت الإشادة بالجيش الحر تتواتر ويتواتر معها الحرج الأخلاقي والصمت الحزين في نقد دعوات الرد على العنف الأعمى والمفرط بعنف مضاد.

والحال، إذ يعي الجميع خطورة دوامة العنف وأنها ببساطة الذهاب نحو إخضاع المجتمع لقواعد لعبة مدمرة، فهم يدركون بلا شك أن اللجوء إلى السلاح يعني تنحية الحقل السياسي وبدء إخلاء الميدان لصالح منطق القوة العارية على حساب دور الناس، وهو ما تكرسه حالات النزوح الجماعي التي تصل كل يوم إلى عشرات الألوف من المناطق الساخنة تاركين أحياءهم وبيوتهم وممتلكاتهم كساحات للصراع وجبهات للحسم العسكري!

إذا كانت أهم نتائج الثورة السورية هي إعادة المجتمع إلى السياسة بعد غياب دام أكثر من أربعة عقود، فإن الصورة التي يكرسها العنف حين يغطي المشهد تهدد هذا التحول النوعي وتعجل بإعادة الأمور إلى المربع الأول. والمعنى أنه مقابل حضور طرائق القوة يفترض من جانب الثورة أن تحافظ على أهمية السياسة وعلى تمكين الحضور الشعبي ودوره المقرر، مما يتطلب الحفاظ على استمرار المظاهرات والاحتجاجات وتوسيعها وتمكين شعارات الثورة في الحرية والكرامة، بما يعني النأي عن الشعارات الفئوية والإسلامية المتطرفة، وخلق نمط من التعايش الصحي بين مكونات المجتمع في المناطق التي تراجعت فيها سيطرة السلطة، والأهم الحد الحازم من التجاوزات والخروقات التي يمكن أن تنشأ في ظل غياب دور الدولة ومؤسساتها الرادعة، والغرض كسب فئات متعاطفة مع الثورة لا تزال سلبية ومترددة، تخيفها لغة السلاح ويصعب كسبها من دون إظهار صورة إيجابية لثورة تستمد على النقيض من الماضي شرعيتها ليس من منطق القوة والإرهاب بل من ممارسات حضارية تنسجم مع شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية التي تتبناها، وهنا يقع على عاتق المعارضة السياسية دور كبير من خلال تعزيز دورها في المناطق الساخنة وبذل جهد ضروري لإظهار الوجه السياسي للثورة وطموحها في بناء دولة المواطنة المتساوية، لحفز المشاركة في إنجاز المرحلة الانتقالية بأقل الآلام.

والحال، ينهض السؤال: هل لا يزال ثمة رهان على دور خارجي يوقف دوامة العنف ويضع الحالة السورية على سكة حل سياسي، أم لا بد ذاتيا من اجتراح الروح السلمية للثورة من أتون العنف وأصوات الرصاص والمدافع، والارتقاء باستعداد المعارضة السياسية لتحمل المسؤولية في تمكين الاحتجاجات الشعبية، وفي بلورة خطاب واضح حول الأفق الديمقراطي للتغيير يساهم في طمأنة جميع مكونات المجتمع ويسرع انتشار الثورة في صفوفها، مما يعزز ثقة الناس بوحدتهم وبجدوى نضالاتهم السلمية وبقدرتهم على نقلها إلى أطوار مدنية جديدة تحقق لهم أهدافهم وتبعدهم عن مخاطر سيادة لغة العنف والإكراه؟!