المسألة ليست أسانج نفسه

TT

لقد أدى القرار الذي اتخذته الإكوادور بمنح حق اللجوء السياسي إلى جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس» والمطلوب في السويد لاستجوابه بشأن اتهامات بالاغتصاب والتحرش الجنسي، إلى وضع البلاد في مواجهة سياسية مع بريطانيا، التي يختبئ داخل سفارة الإكوادور لديها. غير أن حالة الحيرة في لندن ليست لها، في الحقيقة، أي علاقة تذكر بالعلاقات البريطانية الإكوادورية، بل لها علاقة وثيقة بالأوضاع السياسية الإقليمية والمحلية في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وهي كذلك ليست لها أي علاقة تذكر بحماية حق أسانج في الحصول على محاكمة عادلة أو في حرية الصحافة - التي يطأها رئيس الإكوادور رفائيل كوريا، بقدميه داخل وطنه - بل على العكس من ذلك، فهي محاولة من رفائيل كوريا لتسوية الجراح القديمة مع الولايات المتحدة، وإظهار جرأته السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية في الإكوادور العام المقبل، والدخول في استعراض للقوة من أجل الحصول على دور زعامة داخل التيار اليساري في أميركا اللاتينية.

وعلى الرغم من جهر الحكومة الإكوادورية بميولها اليسارية، فقد ظلت تحتفظ بعلاقات ودية نسبيا مع الولايات المتحدة خلال السنوات الأولى من عهد رفائيل كوريا، وهو ما نسبه الكثيرون إلى كوريا نفسه، الذي تولى منصبه أوائل عام 2007، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من «جامعة إلينوي». وقد قوبلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بحفاوة بالغة عندما جاءت في زيارة رسمية في شهر يونيو (حزيران) عام 2010، وقيل إن كوريا أثناء هذه الزيارة وصف تجربته في الولايات المتحدة أكثر من مرة بأنها «أسعد أربع سنوات في حياتي». إلا أن هذه العلاقة فسدت في أوائل شهر أبريل (نيسان) عام 2011، عندما أقدمت حكومة الإكوادور على طرد السفيرة الأميركية هيثر هودجز، غضبا من تعليقات كانت قد ذكرتها في برقيات سرية، حصل عليها موقع «ويكيليكس»، واتهمت فيها رفائيل كوريا بتعيين قائد شرطة فاسد كي يكون لديه في هذا المنصب شخص «يستطيع بسهولة أن يتلاعب به». وقد كان موضوع هذه البرقية حساسا للغاية بالنظر إلى التوقيت، حيث كان كوريا قد خرج لتوه من أكبر تحد لرئاسته - وكذلك من استهداف لحياته - في صورة تمرد قامت به الشرطة، إثر الموافقة على تشريع يهدف إلى توحيد رواتب الموظفين الحكوميين، مما كان سيحد من الرواتب والمزايا التي يحصل عليها جهاز الشرطة. وقد ثأرت الولايات المتحدة لنفسها بإعلان سفير الإكوادور في واشنطن «شخصا غير مرحب به». وفي مقابلة أجريت مع أسانج في شهر يونيو (حزيران) عام 2012، أعرب رفائيل كوريا أيضا عن غضبه من «الأسلوب الإمبريالي» لهودجز، التي رفضت الاعتذار أو حتى التراجع عن تعليقاتها.

وعلى الرغم من أن البلدين قاما بتعيين سفيرين جديدين، فقد ظل هذا الجرح حيا، وكانت فرصة تسوية ضغينة قديمة تجاه الولايات المتحدة عن طريق رفض تسليم جوليان أسانج إلى السلطات سواء في السويد أو في الولايات المتحدة، التي قد يواجه فيها اتهامات بتسريب وثائق سرية، أثمن من أن تضيع. ومن خلال التأكيد على السيادة الإكوادورية وتحدي الولايات المتحدة، فإن الرئيس كوريا ينافس أيضا من أجل الفوز بزعامة القارة، حيث خلق تدهور الحالة الصحية للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، الذي يصارع مرض السرطان منذ ما يزيد على العام، فرصة ممكنة في أميركا اللاتينية كي يتقدم شخص آخر ويصبح حامل راية المعارضة اليسارية والشعبية والقومية للولايات المتحدة.

والواقع أن عددا متناميا من البلدان في أميركا الوسطى والجنوبية وخارجهما، مثل كولومبيا وأوروغواي، يبدو على استعداد للمخاطرة بمعاداة الولايات المتحدة عن طريق تأييد حلول بديلة لمشكلة العنف المرتبط بالمخدرات، مثل إضفاء الصفة الشرعية على تجارة المخدرات. وقد ظل كوريا حتى الآن صوتا هامشيا في هذه النقاشات، وظل يدور في فلك شافيز بشكل عام، وبالتالي فإن القرار الذي اتخذه بتحدي واشنطن عن طريق منح حق اللجوء السياسي لأسانج يمكن الإكوادور من سرقة الأضواء السياسية.

ومما يفيد كوريا أيضا أن هذه مغامرة محدودة المخاطر داخل وطنه، مع إمكانية تحقيق مردود سياسي كبير. فبعد انتخابه رئيسا مرتين؛ الأولى عام 2006 والثانية عقب اعتماد الإصلاحات الدستورية عام 2009، أصبح كوريا صاحب أطول مدة في الرئاسة منذ عودة الإكوادور إلى النظام الديمقراطي عام 1997. ومع العلم بأن لديه مستوى قبول يصل إلى 57 في المائة ومعارضة سياسية مفككة للغاية، فإن فرص كوريا في إعادة انتخابه في شهر فبراير (شباط) عام 2013 تعتبر قوية.

ويفيد أسلوب رفائيل كوريا الشعبي والصدامي المميز له، الذي تبدى عندما رفض التنحي في مواجهة التمرد، في دعم موقفه داخل بلد لديه تراث طويل من الاستبداد السياسي. ويعد منح أسانج حق اللجوء السياسي رسالة تذكير سياسية في وقتها بأسلوب كوريا الزعامي داخل وطنه، وكذلك بامتلاكه إمكانيات الزعامة الإقليمية خارج حدود الإكوادور.

* أستاذة علوم سياسية

في كلية هافرفورد

* خدمة «نيويورك تايمز»