ارتفعت عن الأرض (33) ألف كيلومتر

TT

عندما كنت مسافرا على طائرة محلقة على ارتفاع أكثر من (33) ألف قدم، وبينما كنت مسترخيا بأمان الله في مقعدي، إذا بكابتن الطائرة الذي أعرفه يخرج من (كابينته) ويتجه نحوي مسلما ثم يجلس بالكرسي الخالي بجانبي ليجاذبني أطراف الحديث.

فقلت له دون أي مجاملة: أرجوك ليس المجال الآن مجال حكي، ارجع إلى مكانك خلف (الدركسون) وحافظ على مسير الطائرة، فضحك من خوفي ومن جهلي، وقال لي يريد أن يهدئ من روعي: اطمئن لا تشغل بالك، فالطائرة تتجه تلقائيا، و(الكنبيوتر) هو الذي يسيرها ويقوم بهذه المهمة خير قيام، إلى درجة أنه من الممكن أن يهبط بها بسلام في أسوأ الظروف الجوية، الواقع أنه ما إن ذكر لي هذه المعلومة وأتم كلامه حتى ارتعدت جميع فرائصي، وبدلا من أن يبعث في نفسي الطمأنينة بعث فيها الرعب والهلع، وخصوصا أنني في ذلك الوقت كنت جاهلا بالإمكانيات الخارقة (للكنبيوتر)، ولأول مرة أسمع عن تلك الحقيقة.

وعندما أحس هو أنه جنى علي، قام من مكانه وأخذ يربت على كتفي ناصحا إياي بأن أقطع وقتي بالفرجة على بعض الأفلام الكوميدية.

فقلت بيني وبين نفسي: أي أفلام وأي كوميديا؟! ونظرت من النافذة إلى الأرض وتخيلت أن الطائرة ترتفع عنها ليس (33) ألف قدم، ولكن (33) ألف كيلومتر عندها قفزت لاشعوريا من الكرسي الملاصق للنافذة وجلست على الكرسي الداخلي وكأنني أطلب الحماية، موهما نفسي أنه أكثر أمانا.

وبينما كنت في هذا الوضع المتأزم الذي لا أحسد عليه خطر على بالي أول ما خطر القرآن الكريم، وأسفت جدا أن شنطتي ليس فيها سوى كتاب أدبي تعيس، وبعض المجلات الفنية المصورة، وكذلك بعض الألعاب والحلويات و(التشبس).

وقمت من مكاني وأنا أرتعد، واتجهت للمضيفة أسألها إن كان يوجد لديهم مصحف بالطائرة؟! فأجابتني بالنفي، فنكصت على أعقابي لمقعدي، وقبل أن أجلس عليه لمحت أحدهم في الصف السادس يقرأ وبيده مصحف شريف، فذهبت إليه أسأله أن يعيرني إياه، فرفع إلي رأسه وأخذ يهزه علامة الرفض، ودون أن يرد علي بكلمة واحدة خفض رأسه وانكب على القراءة من جديد، وتركني واقفا متحسرا وحاسدا له.

ورجعت إلى مكاني خائبا وليس في ذهني سوى شبح الموت الذي يكتنفني من جميع الجوانب، وأن خللا ما قد يحصل على (الكنبيوتر) في أي لحظة، وزاد الطين بله أن الطائرة في تلك اللحظات أخذت تمر بمطبات هوائية عنيفة، والمضيفة عبر الميكرفون تطلب ربط الأحزمة، فقلت: جاك الموت يا تارك الصلاة، وأصابني (الحصر)، وتقاطرت على ذهني كل ذنوبي وأخطائي وتجاوزاتي، ووددت لو أن معي كل الأشخاص من الذين ظلمتهم لأعتذر منهم وأقبل رؤوسهم، وأرجوهم أن يسامحوني، ولم يشفع لي غير ما أحفظه من قصار السور التي أخذت أرددها مع دعوات الرحمة والمغفرة.

وما إن هبطت الطائرة بسلام حتى تنفست الصعداء وكأنني ولدت من جديد، وكنت أنا المصفق الوحيد بين الركاب.

وقبل أن أنزل لمحت الكابتن الذي ضحك في وجهي قائلا: إن (الكنبيوتر) هو الذي أنزل الطائرة، بعد إرادة الله.

وما إن لمست قدمي الأرض حتى تلاشت من ذهني دفعة واحدة جميع أسماء وملامح كل الذين ظلمتهم، وسهرت تلك الليلة ولم أنم من فرط السعادة.

[email protected]