رسالة إلى صديقي وزميلي في الخارجية السورية

TT

كم سرني أن أسمع منك رأيا أحترمه... إلا أنه ساءني أن لا ترى مدى الدرك الذي وصلت سوريا إليه على يد من تنعته بـ«القيادة».

أنا يا زميلي العزيز لم أهرب من الميدان، ولكني أضحيت أفرق بشكل لا لبس فيه ولا غموض بين النظام والدولة، مؤسسات وشعبا ومرافق.

مع بداية الأحداث ارتكبت تلك «القيادة» الأخطاء خطأ تلو آخر... قيل في البداية بأنها أخطاء فردية، قتل الناس بأيدي عناصر الأمن وبيد الجيش، الذي بنوه بأموالهم ودمائهم، الجيش الذي خدموا فيه وتحملوا قسوة الكثير من ضباطه ابتزازا وتشبيحا، أصبح يسمى بالأخطاء الفردية.

حاول الكثير منا فعلا الاقتناع في البداية بأن ما يجري هو ربما امتداد لسلسلة من الأخطاء الفردية، وأن الرئيس «المثقف» لن يرضى عما يجري، وأنه لن يسكت على تنصيبه من قبل الجهلة فرعونا مقدسا كما أراد مؤيدوه الذين أتحفوا الشعب السوري بممارسات غاية في الكفر والبذاءة، كما رأينا جميعا.

وكلما زاد القتل، أتحفنا الرئيس بخطابات سفسطائية بعيدة عن الواقع وعن نبض الشارع وأصر على الظهور بمظهر الزعيم الفئوي... رئيس مجموعة محدودة من السوريين... ولا أقصد هنا الطائفة العلوية التي أعتقد أنها ضحية للطاغية أيضا، بل أقصد أنه أضحى رئيسا فقط لمن أراد استمرار النظام ببشاعته بأي ثمن كان، أولئك الذين اصطلح على تسميتهم بالـ«منحبكجية»... انتقل الأسد من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة مجموعة من الـ«منحبكجية» والشبيحة... من رئيس دولة إلى رئيس لمجموعة أشخاص أخذت تنحدر شيئا فشيئا وتأخذ شكل عصابات المافيا... عصابة أوغلت في دماء السوريين وفي أعراضهم.

كان كل ذلك قبل أن يتسلح سوري واحد، وقبل أن ينشق عسكري واحد... فإذا زادت وتيرة القمع والقتل وزادت الاعتقالات وزاد التعذيب في المعتقلات وزاد احتقار أبناء سوريا على يد السلطة لم أعد أطيق السكوت... مع أن الرواية الرسمية لم تتغير... مندسين... مؤامرات خارجية.

زميلي العزيز.. أنت تعلم تماما بأن للدول مصالح متقاطعة في سوريا، ولكن ما حدث هو وكأن الأمن والجيش والرئيس هم جزء من المؤامرة... فكأننا نقرأ في السطر الأول لسفر المؤامرة أنه سيكون هناك مظاهرات سلمية محدودة ذات مطالب معقولة، وفي السطر الثاني سيقوم الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين ويقتل الناس، ثم سيقوم الرئيس بإطلاق خطابات مستفزة، ثم ستتفاقم الأمور فيأمر الجيش بضرب المتظاهرين والمدنيين ويزيد من القبضة الأمنية والاعتقالات والقتل... فتزداد الأمور سوءا فيأمر باستخدام الطيران والمدفعية وكل الأسلحة الثقيلة... فتزداد الأمور سوءا فيستعمل الجيش الأسلحة الثقيلة والمدفعية والطيران ضد الشعب... فيزداد إصراره على التغيير وعلى رحيل رأس النظام فيأمر بالتجييش الطائفي ويتمترس خلف طائفته، ويجبر السوريين على رؤيتها كوحش رغم أنها ضحية كباقي أفراد الشعب.

بالله عليك ألا ترى معي أن الرئيس والذين معه هم أبرز جزء من المؤامرة... بل هم منفذو المؤامرة.

أيعقل لهذه «القيادة الحكيمة» أن لا تترك شيئا يودي بالبلاد والعباد إلى التهلكة إلا وقامت به... فأصبحنا نتحدث عن أكثر من عشرين ألف شهيد (ناهيك عن شهداء الجيش الذين تجاوزوا العشرة آلاف على أقل تقدير) ومئات الآلاف من السوريين الذين دخلوا المعتقلات، فخرجوا منها أو لم يخرجوا... فإذا خرجوا فبعاهات خلقية ونفسية... وعن آلاف المصابين ومبتوري الأعضاء والمشلولين وفاقدي البصر والحواس... أصبحت سوريا بلد الخراب، بلد المجازر والقتل... أصبحت البلد الذي يقتل فيه الأطفال ويشوه فيه الأطفال ويجوع فيه الأطفال... ويتشرد فيه الأطفال... أضحى السوريون لاجئين في مخيمات الجوار. أهذا ما تقوم به القيادة؟... أليست تلك القيادة أسوأ من أسوأ عدو مر على تاريخ سوريا؟

ودعني أسألك... ما مبرر هذا الكم الهائل من المآسي..؟ لماذا كل هذا الدم؟

ألم يكن تنحي الرئيس - وما زال - أهون بمليون مرة من قتل نفس واحدة؟ فما بالك بإزهاق كل هذه الأرواح؟ ألم يكن تنحيه أسهل بألف مرة من وضع الجيش في مواجهة الشعب؟... أبشار الأسد وأعوانه مقدسون فعلا؟ وأما شعبنا كله على الكفة المقابلة فلا بواكي عليه؟!!

هذا الانفصام الذي أخرج الرئيس من الرئيس وترك فيه زعيم العصابة كان أقسى ما مر بنا، فقد ألفى الدبلوماسيون السوريون أنفسهم في خيار صعب بعد أن تآكلت الدولة لصالح النظام الأمني، فإما الاستمرار دون موقف وما يعنيه ذلك من الوقوف مع العصابة، أو الإعلان عن انشقاقهم وتحمل تبعات ذلك.

وصحيح أن للفساد جذورا في مفاصل الدولة ومنها وزارتنا، لكن الكثير من رجال الدولة والعاملين فيها لم يتسلقوا على سلم الفساد. وقد عانوا ما عانوه من النظام الذي ضرب الدولة في صميمها واحتقر العاملين فيها وعاملهم كتوابع صغيرة وسلط أجهزة الأمن عليهم، وحول قسما منهم إلى مخبرين، وتسبب في انهيار منظومة القيم الحاملة للعمل في الدولة. لكن رغم كل ذلك لم تقبل شريحة واسعة من العاملين في الدولة، ومنهم الدبلوماسيون، إهراق الدم السوري.

زميلي العزيز.. بعد كل ما أسلفت، ماذا تتوقع مني أن أتصرف؟... وماذا تتوقع مني حيال من دمر البلد ليبقى في السلطة... حيال من حول البلد إلى فرع مخابرات.. ومن حول البلد إلى ثكنة عسكرية... ليبقى حاكما حتى ولو على بقايا دولة، وزعيما على مجموعة من صغار النفوس والعقول؟

صديقي العزيز.. لم يكن بالإمكان إلا البوح بمكنونات النفس... ولم يكن هناك من مهرب من وضع كافة النظريات على الرف والإعلان عن الموقف... إذا كنت تتوقع مني أن أبقى ساكتا بعد كل ذلك، فوالله لم تعرفني ولم تنصفني.

زميلي العزيز... نحن في الأصل تأخرنا كثيرا في الإعلان، فكيف بالذي ما زال بعيدا عن الوقوف إلى جانب الشعب، وكيف بالذي ما زال في دائرة تبرير أفعال النظام أو الذي ما فتئ يبدع نظريات الصمت والنأي بالنفس؟!

زميلي العزيز.. لا تتردد، الحق بالركب... بسرعة!!

* القنصل السابق

بالسفارة السورية في أرمينيا