نعم في المخاض

TT

كثيرا ما تنتابني وتنتاب كثيرا من الآخرين نوبة من اليأس من أحوال أمتنا والسلسلة الطويلة من الفشل والإحباط التي منينا بها. دفع هذا كثيرا من أمثالي الذين فقدوا الأمل في نهوض شعبنا إلى الرحيل بعيدا إلى حيث تبدو الحياة زاهية تغنم. هذه في الواقع مشاعر عصابية مستعجلة يذوب شمعها لدى تعرضها لأول شعاع من أشعة العقل والمعرفة العلمية بدياليكتية التاريخ. ما يجري في منطقتنا الشرق أوسطية هو في الواقع تكرار لما عرفه كثير من الشعوب الأخرى. لقد أخرجنا العصر الحديث، عصر العلم والعلمانية والعقلانية من سبات طويل وعميق وغاص بالكوابيس والأحلام. من يستفيق من مثل هذا النوم يتعرض لاضطراب الرؤى واختلال التوازن. كثيرا ما يحذرنا الأطباء من مغبة هذه الحالة. امسك بسريرك جيدا قبل أن تحاول الوقوف. بينما سقط أناس في أثنائها وكسروا أرجلهم ومعاصمهم أو حتى من ماتوا ضحايا لنوبة الاستيقاظ.

ما نمر به الآن مرت به أوروبا بعد الثورة الصناعية. دخلت في سلسلة من الحروب والتقاتل والاغتيالات والثورات حتى أطلقوا على عام 1848 اسم «عام الثورات»، بعد أن اندلعت الاضطرابات والثورات في كل الدول الأوروبية تقريبا. ثم دخلت القوى الغربية الرأسمالية في سلسلة من الحروب الجهنمية في القرن العشرين شملت حربين عالميتين. يبدو لي أن هذا العصر، عصر اضطراب المجتمع الغربي قد انتهى بنهاية تلك الحرب العالمية الثانية. توقع كثيرون أن تنشب قريبا حرب عالمية ثالثة. ولكن هذا لم يحدث. حدث العكس. دخلت أوروبا في عصر طويل من السلام والاستقرار وراحت تنفذ شتى المشاريع الاتحادية والتكاملية ابتداء من حلف الناتو إلى السوق الأوروبية المشتركة وأخيرا الاتحاد الأوروبي والوحدة النقدية المتمثلة بكتلة اليورو. بدلا من أن تغزو ألمانيا اليونان وتحصل ديونها منها بالقوة رأيناها تتفاوض معها في حسم السندات ومدها بقروض جديدة.

وتعلمت النقابات والمنظمات غير الحكومية أن تحسين أحوال العمال لا يتم بالإضرابات والعنف وإنما بالتفاوض والمساومة السلمية. الإحصاءات في معظم الدول الغربية توضح الآن أن الأكثرية المطلقة راضية بعيشتها ومستواها. تمثل ذلك قبل سنوات بقول هارولد مكملان، رئيس الحكومة البريطانية في الستينات: «لم تذوقوا مثل هذا الخير من قبل».

يعيش عالمنا العربي في القرون الوسطى، والثورة النفطية تذكرنا بما فعلته الثورة الصناعية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى. ستقتضي سنوات كثيرة ليعم خيرها على الجميع بحيث يفهم الجميع أنهم لم يذوقوا مثل هذا الخير من قبل. انعكس هذا الخير رقميا بالزيادة الرهيبة لعدد السكان. وكان روسو من أول من أشاروا إلى أن زيادة السكان تجسم ارتقاء المجتمع. هذه فترة مخاض مجتمع لولادة مجتمع جديد يفهم أن العنف والقتل والانتحار والحرب لا تنفعنا بشيء، مجتمع جديد يفهم أسياده أن ثروة الشعب هي ملك الكل، ولا بد للكل أن تكون لهم حصتهم منها. وعندئذ سنتعلم ما تعلمته أوروبا؛ أسواق مشتركة، اتحادات إقليمية، تعاون بين الشعوب الغنية والشعوب الفقيرة وتبني الحكم الديمقراطي.