مليونية ختم القرآن وغالبية تطبيق الشريعة!

TT

سادت في الأيام الماضية بمصر دعوتان إخوانيتان، إحداهما لمليونية شعارُها ختم القرآن ونُصرة الرئيس محمد مرسي، ردا على دعوة النائب السابق محمد أبو حامد إلى مليونية لمواجهة استيلائية الإخوان - وثانيهما دعوة من جانب الدكتور عصام العريان القائم بأعمال رئيس حزب الحرية والعدالة، لتطبيق الشريعة، باعتبار أنّ غالبية الشعب المصري مسلمة! والبارز في الدعوتين والذي أثار تعليقات سلبية كثيرة هو استخدام الإخوان المسلمين للدين للمرة الألف بعد الثورة، لإكمال الاستيلاء على السلطة وإدارة الشأن العام. والذي أراه – بغضّ النظر عن الوعود السابقة لمرسي وللإخوان، وعن مقتضيات النزاهة والاعتدال - أنّ هذه الشعارات التي حملوها على مدى عقودٍ وعقودٍ (باسم: الإسلام هو الحلّ)، أَوصلتْهم إلى ما هم عليه الآن. ولذلك – وبمقتضى الشراهة الهائلة التي يثيرها حُبُّ السلطة، والتصارع عليها - ليسوا ملومين بالاستجابة لغرائزهم التي يعتقدون أنها تتلاءمُ مع عواطف العامة، وهي حَرية أن تقودهم للمزيد من النجاح في الوصول للهدف الذي وضعوهُ نُصْب أعينهم منذ آمادٍ وآماد.

إنّ استخدام الدين في الصراع على السلطة هو بضاعة مُزجاة، وما كان الإخوان أولَ من استخدمه، ولن يكونوا الأخيرين. ولا شكَّ أنه يشكِّل خَطَرا على الدين، وعلى وحدة المجتمع. إنما الأخطَرُ منه هو الثقافة السائدة الآن، والتي تطورت عبر عدة عقودٍ، وكان من أبرز مظاهرها وظواهرها استعلاءُ «الإسلام السياسي»، وحزبياته وجماعاته، والذي تصور الدولة كيانا لإنفاذ أحكام الدين.. فعندما قال الشيخ حسن البنا بمصر في الأربعينات من القرن الماضي إنّ الإسلام دين ودنيا، مصحفٌ وسيف، ما كانت تلك العبارة الشِعارية مألوفة لدى العامة، ولا مقبولة في الأوساط الإسلامية المثقفة حتّى لدى المتدينين منهم. ففي الإسلام كلِّه، والإسلام السُنّي على وجه الخصوص، الدين دين المجتمع وأساسُ وحدته ونظامه الأخلاقي. لكنّ هذا شيء، والدولة وإدارة الشأن العامّ شيء آخَرُ تماما. وقد كانت تلك مسلَّمة على مدى العصور. ولذلك ما كان الفقهاء والمتكلمون من أهل السنة يعتبرون «الإمامة» - أي السلطة السياسية، من أصول الإسلام. وقد عبَّروا عن ذلك بأنّ الإمامة ليست من التعبديات، بل هي من المصلحيات. وقالوا إنّ الفرائض نوعان: الفرائض التعبدية (التي على كل مسلمٍ فردٍ الالتزام بها قطعا)، والأخرى الحسبية، أي الأعمال الاختيارية التي يقومُ بها المسلم رجاءَ الأجر، وباعتبارها واجبا أخلاقيا في الجماعة والمجتمع وتجاههما، صونا للمصالح ورجاء الأجر بسبب القيام بالعمل الصالح. إنها فروض العين، وفروض الكفاية، وحقوق الله، وحقوق العباد.

فالأعمال التعبدية هي حقُّ الله وإعلان عن اعتناق الدين والالتزام به (مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج بعد التوحيد)، أما الأعمالُ الأخرى الدنيوية فهي اختياراتٌ كبرى وصُغرى يقومُ بها المسلم أو يشاركُ بها استنادا لفهمه لمصالح الجماعة والمجتمع وحقه في المشاركة، وهي تستندُ في أصلها أو دوافع القيام بها إلى الاحتساب وتقصد خير الجماعة، لكنها غير محدَّدة دينا، ولا خاضعة لما تخضع له التعبديات.

ما معنى هذا الاستطراد كله، وما علاقته بمليونيات الإخوان اليومَ من أجل الشريعة؟ لقد تطورت فيما بين الثلاثينات والسبعينات من القرن الماضي ثقافة جديدة غيَّرت من طبيعة فهم الدين لدى العامة، وبعض الخاصّة. وقد عبَّرت هذه الثقافة المتكونة عن نفسها بطرائق مختلفة ومتدرجة: من حاكمية الشريعة، وإلى أنّ الإسلام نظامٌ كاملٌ في السلطة والسياسة والاقتصاد ودقائق التعامل بين الناس ومع العالم (كما قال الرئيس محمد مرسي قبل أيام أيضا!). وما دام الإسلام كذلك؛ فإن معناه أنه يملك بالطبع نظاما سياسيا يقتضي التطبيق أو أنّ على المسلم واجبا فرديا وجماعيا أو تكليفا هو إقامة الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة باعتبارها النظامَ الإلهي الكامل، وإن لم يحصل ذلك فالمسلم بحسب الإخوان المعتدلين (!) مقصّر أو غافل، ولدى المتطرفين والمتشددين هو فاسقٌ أو كافرٌ أو كافرٌ مُحارب! وهذا هو معنى مقولة «الإسلام هو الحلّ» التي ظهرت في السبعينات، مقترنة بين الحزبيين الإسلاميين بمقولة: تطبيق الشريعة! ما عاد هناك مجالٌ للاختيارات المختلفة لدى الأفراد والجماعات حتى خارج التعبديات، بل هي جميعا واجباتٌ شرعية يصبح المؤمنون مُدانين إن قصّروا في أدائها! لقد صار الاستيلاءُ على إدارة الشأن العامّ فرضا كفروض العين، لا يحول بين المسلم وتطبيقه غير سببٍ قاهر مثل استيلاء النظام العلماني الديكتاتوري المتغرب، أو نقص الوعي والدين والإيمان!

وهكذا، فلدينا اليوم أربع مشكلات كبرى مع الإسلام السياسي: مشكلة اعتبار الشأن العام المصلحي شأنا دينيا. ومشكلة معنى الشريعة (النظام الكامل الذي يراد تطبيقه). ومشكلة من يطبق الشريعة؟ ومشكلة البيئات التي يراد فرض الشريعة عليها. فلا شكّ أنّ الشأن العام هو حقُّ الأفراد أو حقُّ العباد وليس حقَّ الله أو الدين. وقد كان الاختيار في الإمامة أو النظام السياسي هو مذهبُ أهل السنة، أي أنّ الأفراد أو المواطنين بلغة العصر، وليست هناك تعليماتٌ دينية في المسائل السياسية باستثناء البديهي وهو أنّ الحاكم أو المحكوم ملتزمون أخلاقيا، لكنّ عدم التزامهم لا يُفقِدُهم حقَّهم في المشاركة هم الذين يصنعونه، بعكس ما لو تركوا فرائض الدين؛ إذ إنهم يخرجون من الملّة أو يكادون! أما الشريعة التي يراد تطبيقها، فليست محددة المعالم في المسائل الدنيوية أو أكثرها، بعكس العبادات الشديدة التحديد. وعندما أراد الفقهاء بلورة تأثيرات إيجابية للشريعة في الشأن الإنساني العام ذكروا الضرورات الخمس واعتبروها مقاصد للشريعة وهي: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق الكرامة، وحقّ المِلْك. وهذا يعني التزامات أخلاقية، وأخرى قانونية. لكنها اختياراتٌ كبرى وعامة، ولا يمكن أن يُلزمَ بها على نحوٍ محدَّدٍ اجتهادُ إمامٍ أو عبقرية فقيه. ولدينا في المسائل الدينية عشرات المذاهب، فكيف بالمسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟! ثم من الذي يكون له «الحق» في تطبيق الشريعة غير المحدَّدة هذه (يعني بحسب اجتهاده!) في الدولة؟ الإسلاميون يعتبرون ذلك واجبا أو تكليفا، وهم «يكلفون» أنفسَهم في الحقيقة بحكمنا من أجل تطبيق شرع الله بحسب اجتهادهم! يستطيع عصام العريان أن يُخفي ذلك كلَّه تحت حَدَث «الغالبية» الشعبية بمصر، أو الغالبية التي انتخبت الإخوان المسلمين. لكنّ النظام السياسي غير الدولة. فالدولة هي نظامُ الناس جميعا، وهي حقُّهم جميعا والمُعارض للإخوان قبل الموافق لهم. وهناك «ضرورات» أو حقوق طبيعية لا تختلف باختلاف الأنظمة والحكومات؛ لأنها من شأن الدولة. وهذا معنى «المواطنة» التي لا تختلف كثيرا من وجهة نظري عن إقامة الفقهاء المسلمين للإمامة قديما على الاختيار والإجماع، واستناد الإجماع إلى «الأعراف المستقرة» في كلّ وطنٍ أو بلد.

ثم بالله عليكم: هل صحيح أنّ مشكلة المسلمين هي عدمُ تطبيق الشريعة؟ وهل قامت الثورات من أجل تطبيق الشريعة؟ أنا أرى أنّ الشريعة سائدة ومطبقة في المجتمعات الإسلامية كما لم تُطبق منذ أيام الراشدين! ولا ينقصنا شيء في الدين، بل ينقصنا الكثير في إدارة الشأن العام وإصلاحه. ولا مانع لدي في أن يكون لكم «مذهب» في إدارة الشأن العام مصبوغٌ بصبغة دينية، إنما لا يقوم على وهم مثل أنّ الدين غير مطبَّق وأنتم تريدون تطبيقه، وتضحكون على العامة التي أبهظها الظلم والفساد، بذلك! وهذا فضلا عن استخدام الدين في البقاء في السلطة، وفي التنافُس مع الخصوم؛ بحيث نخشى على وحدة المجتمع من وراء حبكم الاستئثار بالسلطة بأي سبيل!

إنه زمن أهل الدين، وأهل العقل، وأهل النزاهة والشجاعة، ليس لحماية الدولة من الدين كما يزعم العلمانيون، بل لحماية ديننا من السلطة وأهوائها والسلطان وجموحه، سواء أكان المجتاحون إسلاميين أم رؤساء جمهوريات وراثية: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».