.. وما الظروف التي سبقت الحرب العالمية الأولى؟

TT

اقتضى منهج البسط والاستقراء والتوضيح أن يكون هذا المقال «تتمة» أو تكملة لمقال الأسبوع الماضي (الذي كان موضوعه: توقعات مسؤول إسرائيلي كبير بردة العالم العربي إلى عهود الاستعمار أو إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى)، وإذ ناقشنا في الأسبوع الماضي هذه التوقعات، ورفعنا صوت التحذير بأنه لا يجوز الاستخفاف بمثل هذه التوقعات، ولو من باب ترك هوامش لما هو أسوأ الافتراضي: ابتغاء التأهب المناسب لتفاديه ودفعه فإن من حق القارئ أن يسأل: وما تلك الظروف التي سبقت الحرب العالمية الأولى والتي أشار إليها المسؤول الصهيوني: بذكاء أو بخبث؟

وفي الجواب عن مثل هذه الأسئلة، لا يصلح التحليل المجرد، ولا الانطباع العام.. والسبب بدهي وهو: أن الجواب - ها هنا - يتطلب تقديم صورة موضوعية وصفية لوقائع تلك الحقبة.

لأجل ذلك نخلي المجال لرجلين مرموقين متميزين بوضوح الرؤية، ورجحان العقل، ليرسما صورة أوضاع تلك الحقبة:

1) الزعيم السياسي الهندي الشهير جواهر لال نهرو. فلهذا الزعيم كتاب نفيس بعنوان «لمحات من تاريخ العالم». ولقد عقد فصلا - في كتابه هذا - للحديث عن الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى.. ومما قاله في ذلك الفصل: «تحدثت سابقا عن كثرة المفاوضات والمنافسات في هذه الظروف. وكنت استعرضت الأسباب الكامنة وراء نشوب الحرب العالمية الأولى بين سنة 1914 وسنة 1918. وقد نشبت الحرب وانتهت ونتج عنها معاهدة فرساي وميثاق عصبة الأمم، ولكن المشكلات القديمة لم تحل، بل طرأت عليها مشكلات جديدة مثل التعويضات وديون الحرب ونزع السلاح والأمن الجماعي والأزمة الاقتصادية والبطالة المنتشرة على نطاق واسع، يضاف إلى ذلك المشكلات الاجتماعية العويصة التي أخلت بالتوازن العالمي.. وهكذا رجعنا إلى عصر الحرب العالمية الأولى، وما قبلها بكل ما فيها من مشكلات ومنازعات، بيد أنها الآن أصبحت أعقد وأعنف مائة مرة عما كانت من قبل. ولقد تسبب الاستعمار الجاثم على قلوب عشرات الأمم في زيادة البلاء والألم على الناس في تلك الحقبة السوداء من تاريخ البشر».

2) ومن هؤلاء الرجال المرموقين الذين رسموا بأقلامهم الموضوعية الأمينة صورة أوضاع ما قبل الحرب العالمية الأولى: المؤرخ العريق الدقيق، والمفكر الاستراتيجي المبدع الكبير الدكتور جمال حمدان، فلهذا المفكر كتاب نادر في مجاله بعنوان «استراتيجية الاستعمار والتحرير».. ولقد استفاض - في كتابه هذا - في تصوير الأوضاع التي سبقت الحرب العالمية الأولى.. ونود - عند هذه النقطة من السياق - أن ننبه إلى أن الوقائع والأوضاع التي سبقت الحرب العالمية الأولى، موصولة - موضوعيا - بالأوضاع والوقائع التي كان مسرحها الزمني أواخر القرن التاسع عشر.

لنستمع إلى الدكتور جمال حمدان وهو يقول: «والذي نود أن نؤكده هو أهمية البعد التاريخي كمدخل لأي دراسة عملية جادة وعميقة لواقعنا السياسي والاستراتيجي المعاصر، وبغير هذا تبدو الحقائق مقتلعة، والتعميمات مبتسرة مفتعلة، وتخرج الصورة كلها - عندئذ - ولها مسطح، ولكن ليس لها عمق. ولذا فنحن بحاجة حقيقية وملحة إلى دراسة متكاملة لتاريخ الاستعمار من ناحية، ولتاريخ الصراع الاستراتيجي من ناحية أخرى. والحقيقة أن التاريخ هو معمل (الجغرافي) كما قيل، وهو كذلك مخزن (الاستراتيجي) الذي لا ينضب.. لقد لفظ القرن التاسع عشر وحده من أوروبا نحوا من 60 مليون نسمة، توزعت على القارات الثلاث الملائمة مناخيا للسكنى الأوروبية.. تلك إذن أضخم وأطول رحلة في التاريخ عبر القارات والمحيط تتضاءل بجانبها كل حركات رعاة الاستبس في العصور الوسطى، ولا يفوقها إلا تيار تهجير الرقيق. وهو خروج (أبيض) أولا قبل كل شيء، فقد صدّرت أوروبا وحدها هذا السيل لتحقق (عالمية الرجل الأبيض) أو (أورَبة العالم).. إذن فقد جعل الاستعمار أوروبا (قلب العالم) ورأسه جغرافيا وسياسيا، وجعل العالم يتمركز حول (قِبْلة) أوروبا، وفي نفس الوقت جعل الرجل الأبيض يحاصر الأجناس الأخرى من خلف ومن قدام.. وبهذه الروح أخذ الاستعمار الأوروبي يتكالب على مناطق النفوذ والثروات من خلال مؤتمر برلين عام 1884. ففي هذا المؤتمر أجمعت أوروبا على تعريف مشترك للاستعمار وهو (الاحتلال الواقعي الملموس للبلدان).. وفي سنة 1893 - بعد عقد واحد من المؤتمر - كانت القارة الأفريقية كلها قد اقتسمت بين الدول الأوروبية حيث انخفضت نسبة المساحة المستقلة - في أفريقيا - من 95% عام 1885 إلى 8% عام 1910.. ولما كان أغلب العرب يوجدون في أفريقيا، فإن معظم العالم العربي قد كان محتلا في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.. على أن الموجة الاستعمارية الأولى للوطن العربي قد سبقت هذا التاريخ، أي في ثلاثينات القرن التاسع عشر حيث احتلت فرنسا الجزائر عام 1830، كما احتلت عدن في زمن قريب من هذا 1839.

والموجة الثانية والأخيرة من موجات الاستعمار حصلت في العقد الثاني من القرن العشرين قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى. وقد بدأت بانقضاض إيطاليا على ليبيا عامي 1911 و1912. وفي نفس الوقت بدأت فرنسا تتوسع من الجزائر غربا في مراكش لتنفرد بها من بين مناورات القوى المختلفة. وتم لها هذا خلال الحرب العالمية الأولى. أما في المشرق العربي فقد كانت الموجة الاستعمارية أخطر فترة في تاريخه، فقد سقط أغلبه (الهلال الخصيب) للاستعمار دفعة واحدة، وذلك كجزء من مساومات الصلح فاستولت فرنسا على سوريا ولبنان، واستولت بريطانيا على فلسطين والأردن والعراق».

الخلاصة: أنه قبل الحرب العالمية الأولى كانت معظم البلدان العربية محتلة مستعمرة. ومن هنا، فإن الصهيوني داني إياليون حين يقول: إن العالم العربي سيرتد إلى زمن ما قبل الحرب العالمية الأولى، فإن الترجمة التاريخية لذلك هي: أن العالم العربي سيخضع للاستعمار الغربي من جديد.

ولعله مما يوقظ النائمين من بني قومنا: التذكير بمعلومتين اثنتين:

الأولى: أنه منذ أكثر من ثلاثين سنة - تقريبا - صدر كتيب إسرائيلي بعنوان «إسرائيل عام 2000».. وموجز الكتاب: أن العالم العربي سيعاد رسمه وتركيبه وفق منظور اقتصادي.. ومن خطوط الرسم تلك:

أ) يوكل إلى العراق إنتاج الحبوب بما يكفي حاجة شعوب المنطقة.

ب) يوكل إلى مصر تزويد المنطقة بالأيدي العاملة.

ج) يوكل إلى بلدان الشام صناعة الأغذية والمنسوجات.

د) تتفرد إسرائيل بأمرين: الرعاية الصحية، وتطوير التقنيات.

والمهم في الفكرة - من قبل ومن بعد - هو إدخال إسرائيل في صميم نسيج المنطقة.. أما توزيع المهام فيمكن إعادة النظر فيه!

الثانية: أنه قبل الحرب العالمية الثانية (عام 1936) ألف مستشرق ألماني كتابا بعنوان «الإسلام قوة الغد» وقد حصر هذه القوة في أربع: خصوبة التناسل.. وفرة الموارد.. وفرة الأيدي العاملة.. العقيدة الدافعة.. ثم تنبأ - بناء على هذا - بأن الإسلام سيصبح قوة الغد.. وفي تمام كتابه نصح الغرب بأن يعاجلوا المسلمين بما يعيقهم قبل أن ينهضوا.. وهذا التعويق - في نظره - هو الخيار الواقعي والوحيد أمام الغرب.

لم نعوّد قراءنا على التيئيس، إذ اليأس مناقض لعقيدة التوحيد، ولا سيما مضمونها العميق وهو «التوكل»، ولذا نقول: إن الأعداء يكيدون ويمكرون بيد أنه ليس بالضرورة أن تتحقق مخططاتهم، لكن إحباط مخططات المكر مشروط بالفطنة الدائمة المتجددة.. وبالعكوف على بناء الذات وتحصين الحصون كلها.. وبالإيمان المطلق بالله الذي ينصر أهل الفطانة والعمل والتوكل.