ما وراء أزمة سفارة الإكوادور

TT

تساءل مراقبون عن الأسباب الحقيقية لخروج الدبلوماسية البريطانية عن هدوئها وحكمتها المألوفين، مؤدية إلى توتر في العلاقات مع الإكوادور، بعد تهديد وزير الخارجية ويليام هيغ بتفعيل قانون أصدره برلمان وستمنستر 1987؛ بعد لجوء جوليان أسانج، صاحب موقع «ويكيليكس»، سياسيا لسفارة الإكوادور خشية ترحيله إلى السويد.

القانون لم يتعرض لاختباره دوليا في إطار بروتوكولات التبادل الدبلوماسي (آخرها ميثاق العمل الدبلوماسي للأمم المتحدة المعروف بمعاهدة فيينا 1961 ويغطيها القانون الدولي منذ 1964). مباني السفارات (حتى غرفة دبلوماسي مؤقت في فندق) والسيارات والحقائب قطعة من أرض البلد الذي تمثله السفارة، وداخله يسري قانونها لا قانون البلد المضيف. ومثلا، حصل الأمن البريطاني على موافقة كتابية من سفير إيران قبل اقتحام سفارتها لتخليص رهائن مدنيين من جماعة إرهابية احتجزتهم فيها عام 1980.

قانون 1987 يعطي وزير خارجية بريطانيا خيار إنهاء مؤقت لحصانة مبنى دبلوماسي إذا ثبت - بأدلة - استغلاله لأغراض مناقضة للمهام التي حددها ميثاق فيينا 1961.

قانون 1987 صدر عقب مناقشات ودراسات برلمانية استمرت قرابة عامين، بعد مصرع ضابطة البوليس إيفون فلتشر برصاص أطلقه عملاء الكولونيل القذافي من السفارة الليبية على مظاهرة معارضين عام 1984. وحتى اليوم، لم يستطع البوليس القبض على الفاعل، لعجزه قانونيا عن دخول السفارة واستجواب موظفيها، فرحلوا سالمين إلى طرابلس واستقبلهم الكولونيل القذافي كالأبطال بمهرجاناته المناقضة للعقل والقانون الدولي. ولم تستطع النيابة جمع الأدلة (كطلقات الرصاص الفارغ والبصمات) إلا بموافقة دبلوماسيين سعوديين عندما تولت المملكة العربية السعودية رعاية المصالح الليبية بعد قطع العلاقات.

وتعرضت حكومة الليدي ثاتشر ووزير الخارجية وقتها السير جيفري هاو، وسابقاه السير فرانسيس بيم، واللورد كارينغتون لانتقادات النواب، لتغافلهم عن تحويل السفارة على يد عملاء المخابرات الليبية إلى مكتب شعبي والقيام بممارسات مناقضة لاتفاقيات فيينا 1961؛ كرشوة صحافيين عرب لترويج بروباغندا القذافي، وتمويل جماعات متطرفة وصحف تهاجم بلدانا صديقة (كمصر وأميركا والسعودية وإيطاليا)، وترويع المعارضين الليبيين، ودعم وتمويل جماعات إرهابية؛ وأصر البرلمان على إصدار قانون 1987 لتجنب تكرار الخطأ.

تفعيل قانون 1987 يُخضع المبنى لسيادة القانون البريطاني، فيمكن للقضاء إصدار إذن بالتفتيش أو لتمكين البوليس من تنفيذ حكم أو أمر نيابي ملزم، كالصادر قبل عامين عن نيابة السويد باستدعاء أسانج وفق اتفاقية الضبط من قبل البوليس الأوروبي التي تلزم الدول الأعضاء ترحيل المتهم قسريا إلى نيابة البلد الذي أصدر الأمر.

محامو المطلوب توقيفهم، حسب الاتفاقية الأوروبية، ينجحون قضائيا في تجميد الأمر في ثلاث حالات فقط: إذا كان القضاء في البلد الذي طلب المتهم لا يرقى لمستوى احترام الميثاق الدولي لحقوق الإنسان. أو إذا كانت المخالفة ليست جريمة وفق القوانين البريطانية. أو إذا كان البلد يطبق عقوبة الإعدام.

محامو أسانج استنفدوا كل مستويات القضاء ولم يستطيعوا إثبات أي من البنود الثلاثة في حالة السويد. وكانت سيدتان سويديتان اتهمتا أسانج بالاعتداء الجنسي sexual assault أثناء نومهما.

مؤيدو أسانج (التيارات العالمية المعادية لأميركا والنظام الرأسمالي كاليسار الأوروبي والإسلامويين والقومجيين العرب) اتهموا السيدتين بالعمالة للـ«سي آي إيه». وبصرف النظر عن دوافع السيدتين، فلا تملك نيابة السويد، حسب قانون البلاد، إلا التحقيق في القضية، ويقع الأمر على الادعاء باستخدام الشهود والأدلة المادية كالحامض النووي والملابس مثلا أثناء نظر القضية، أن يثبت إدانة المتهم بما لا يدع مجالا للشك.

الاعتداء الجنسي في بريطانيا، مثل كل بلدان العالم، جريمة جنائية، والسويد نظامها القضائي راق، ولا تطبق عقوبة الإعدام.

اليسار البريطاني دعم أسانج، لكنه وقع في مأزق مضحك. فاليسار يروج للفيدرالية الأوروبية، وهي اتفاقية أوروبية تجبر لندن على ترحيل حليفهم أسانج إلى السويد.

اليسار يدعم أسانج لتركيز نشاط «ويكيليكس» ضد أميركا. لكن التحرش الجنسي من أولويات اليسار، في مفارقة ذكرتني بقول الممثل القدير الكوميدي الراحل عبد الفتاح القصري في فيلم لإسماعيل ياسين «إذا اختلف اللصان ظهر المسروق».

الأكثر سخرية، لجوء أسانج سياسيا إلى الإكوادور خشية أن تسلمه السويد إلى واشنطن، خاصة أن الأخيرة لم تطلب استجوابه، ولا توجد اتفاقية تبادل متهمين بينها وبين السويد كاتفاقيتها مع لندن مثلا.

ولا يمكن لشخص في كامل قواه العقلية ادعاء تفوق قضاء الإكوادور على قضاء السويد في مجال حقوق الإنسان.

الأكثر إضحاكا في بليته تلويح أسانج براية حرية التعبير من شرفة سفارة بلد تراجعت فيه حرية الصحافة (حسب «صحافيين بلا حدود»، و«هيومان رايتس ووتش»، و«فريدم هاوس») إلى أسوأ المستويات، ويتعرض فيها الصحافيون للحبس بتهمة إهانة الرئيس أو إهانة المسؤولين. ولا يمكن تصور سماح نظام الرئيس رافائيل كورييا بإصدار صحيفة تنشر أي نقد، ناهيك بوثائق رسمية مهربة من حكومته. والرئيس كورييا من نفس الطينة السياسية لزعماء ديماغوغيين كالكولونيل القذافي وهيوغو شافيز. ومهاجمة أميركا والإمبريالية العالمية مشجب مثالي لتعليق أخطاء الحكومة ومبرر للإخفاق في تنفيذ الوعود. وما يجمع كورييا بأسانج هو كراهية أميركا وكراهية نظام السوق الحرة الغربي وليس احترام حرية التعبير.

وفكرة اللجوء السياسي عرضها الدبلوماسيون الإكوادوريون على أسانج في برنامج متلفز نكاية في أميركا وبريطانيا.

وزارة الخارجية البريطانية تعرضت للانتقاد لتلويحها بتفعيل قانون 1987، والتكلفة العالية لوجود أفراد البوليس والحراسة حول سفارة الإكوادور بسبب مظاهرات مؤيدي أسانج، بدلا من تجاهله وتركه داخل السفارة (مجرد شقة من ثلاث غرف فقط وراء محلات هارودز) حتى «يزهق» السفير ويطرده بعد بضعة أسابيع أو أشهر.

الساسة والدبلوماسيون البريطانيون عرفوا بدهائهم. ولا يمكن أن يفوتهم الأمر بهذه البساطة أو أنهم فقدوا الحكمة الدبلوماسية بقدر ما هو تحرك مقصود من الوزير هيغ لتذكير للعالم بوجود هذا القانون وبنصوص ميثاق فيينا لعدم استخدام السفارات لأغراض سياسية وآيديولوجية، خاصة مع التغيرات إلى يشهدها العالم وتصاعد التهديدات الإيرانية بسبب البرنامج النووي والتهديدات السورية.

أيضا ما سمته الصحافة - خطأ تاريخيا وجغرافيا - بـ«الربيع العربي»، جاء بأنظمة ذات اتجاهات وسوابق في انتهاك حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، والإيمان الأعمى بآيديولوجيات عنيفة واغتيال المعارضين في الخارج.

أنظمة رغم شرعيتها الجديدة (مزيج من ثورات الميادين والانتخابات ونصوص الدين)، فإنها تحت سيطرة آيديولوجية قد تدفعها لتوظيف الأساليب نفسها التي أدت إلى حادثتي السفارة الإيرانية عام 1980 والسفارة الليبية عام 1984.