جرمانا وأخواتها السوريات

TT

جرمانا بلدة صغيرة في الجهة الجنوبية الشرقية من دمشق، سكانها من المسلمين الدروز، نمت وتطورت كثيرا في العقود الأخيرة، فأصبحت مدينة تكاد تتصل بدمشق، وتصبح منها، وكان توسعها نتيجة مجيء وافدين سوريين من دمشق ومحافظات السويداء واللاذقية وحماه وغيرها، قبل أن يستقر فيها عدد كبير من العراقيين بعد عام 2003، الأمر الذي جعل المدينة ذات تكوين سكاني خاص، يضم سوريين وعراقيين، عربا وآشوريين وأكرادا، مسلمين ومسيحيين، دروزا وعلويين وإسماعيليين، باختصار مدينة ذات تعددية سكانية مميزة.

ومنذ بداية الحراك الشعبي، كانت جرمانا بين المناطق التي شهدت حراكا ملحوظا، وخاصة في أوساط الشباب والشابات، وقد نظموا اعتصامات ولقاءات وجماعات مدنية هدفها دعم الحراك الشعبي ومطالبه في الحرية والكرامة، وهذا كله قبل أن يواجهوا ضغطا أمنيا كبيرا على المدينة، شارك فيه عناصر من شبيحة المدينة، مما حد من توسع الحراك الشبابي هناك، لكنه لم يستطع إيقافه رغم كل الجهود.

وسط تلك المعطيات واجهت جرمانا التطورات الأخيرة في حصار وقصف المدن والقرى واجتياحها.. فأظهرت تضامنها مع غيرها من المناطق السورية وأهلها، ومساندتهم، وكان من تعبيرات ذلك قيام كثير من سكانها بفتح بيوتهم أمام إخوانهم من مهجري المناطق الأخرى، ولا سيما مهجرو قرى الغوطة التي تحيط بالمدينة بعد الهجمة الأمنية العسكرية التي تعرضت لها تلك القرى ودفعت كثيرا من سكانها للنزوح هربا من الموت والدمار، أو بسبب تدمير بيوتهم وممتلكاتهم، واللجوء إلى جرمانا والمناطق القريبة، ولعب رجال المدينة وفعالياتها الدينية والاجتماعية دور الكابح لأنشطة الشبيحة الذين حاولوا إثارة الرعب في صفوف الوافدين الجدد، ومنعهم من الاستقرار هناك، حيث أصدر رجال المدينة وفعالياتها بيانا أكدوا فيه تآخيهم مع الوافدين والتزامهم الوطني الإنساني والأخلاقي بالوقوف إلى جانبهم في محنتهم، ورفضهم لأي سلوكيات يمكن أن تؤذي الوافدين أو تؤثر على إقامتهم في جرمانا بين أهلهم.

وخطا شبان من جرمانا في أحد تلك التعبيرات إلى الأبعد في تضامنهم واحتوائهم المهجرين عبر تجربة مميزة، إذ أقاموا خلال رمضان الماضي مطبخا جماعيا، هدفه تقديم الطعام للوافدين من الصائمين على مدار أيام الشهر، حيث تبرع أحدهم بالمطبخ، وآخرون تبرعوا بقيمة المواد الأولية من لحوم وخضار وحبوب، بينما تبرع البعض بجهودهم في التحضير وخدمات التوزيع، حيث يتم إيصال الوجبات إلى أصحابها من الصائمين في بيوتهم.

أغلب المشاركين في المشروع من غير الصائمين سواء بسبب انتماءاتهم اليسارية أو لكونهم من جماعات دينية أو مذهبية أخرى، وهو ما لم يمنعهم من خدمة الصائمين في خطوة أرادوها تعبيرا عن تآخيهم وتكاتفهم معا، وتأكيد التعايش بين مختلف التيارات والتلاوين الموجودة في البلاد، رغم كل ما يقال إن الحالة في البلاد تسير في اتجاه آخر.

وما حصل في جرمانا من تضامن ومساعدة للمهجرين، جزء من تقاليد هذه البلدة وسلوك أهلها في حالات مماثلة، إذ استقبلت في ما سبق لبنانيين في عام 2006، وقبلهم عراقيين بعد الحرب على العراق عام 2003 وبعضهم ما زال في المدينة إلى اليوم، وقبل الجميع استقبلت فلسطينيين، وقال أحد نشطائها إن ما تم في جرمانا من استقبال «أهلنا من الغوطة أو باقي مناطق سوريا»، يؤكد أن «جرمانا جزء لا يتجزأ من محيطها الأقرب جغرافيا في الغوطة والأبعد في مختلف أنحاء سوريا».

ما حدث في جرمانا في مراحل مختلفة من العام ونصف العام الماضي، حدث في مدن وقرى سورية كثيرة، شارك أهلها في الحراك الشعبي بطرق مختلفة، وكانت مشاركاتهم جزءا من مسعى السوريين لتغيير صورة بلدهم وحياتهم نحو الحرية والكرامة، كما شاركت في تحمل أعباء ما أصاب تلك المدن والقرى وسكانها من دمار بشري ومادي، فقامت باحتواء بعض سكانها وتأمين ملاذ آمن لهم يوفر لهم احتياجاتهم أو الأساسي منها على الأقل.

جرمانا في هذا السلوك لم تكن وحيدة، بل إن معظم مدن وقرى سوريا كانت تشبه جرمانا، وقريبة من سلوكها إلى درجة يمكن القول معها إن جرمانا وأخواتها هي سوريا.