الحوار بين المذاهب

TT

ما هو موقفنا من الحوار؟ هل نلجأ إليه على أساس استراتيجي أم تكتيكي؟ إن كلا الموقفين يتوقف على رؤانا وقيمنا ومعتقداتنا. ودعوني أضرب لكم مثالا من وقتنا الحاضر: هناك بعض الحكومات التي تظن أنه يمكنها حل كل أزمة وإخراس كل صوت يعلو ضدها باستخدام القبضة الحديدية، إلا أنها تخرج من اعتبارها تماما الجانب المضاد، أو بتحديد أكبر منتقديها، حيث تزعم هذه الحكومات أن منتقديها هم عملاء لأميركا وإسرائيل، وأن الحكومة في المقابل هي رمز الحق.

وفي الآونة الأخيرة، خرج علينا قدري جميل، نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية، بتصريح قال فيه إن سوريا مستعدة لمناقشة استقالة الرئيس بشار الأسد في إطار التفاوض من أجل التوصل إلى تسوية تضع حدا لنهر الدماء الذي يتدفق هناك منذ 17 شهرا، وقال قدري بعد اجتماع مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو: «فيما يتعلق باستقالته، فإن اعتبار الاستقالة في حد ذاتها شرطا لإجراء حوار يعني أنه لن يكون في مقدوركم أبدا الوصول إلى هذا الحوار. إن أي مشكلات يمكن مناقشتها أثناء المفاوضات، ونحن مستعدون حتى لمناقشة هذه المسألة».

لماذا قبلت سوريا بمناقشة خروج الأسد؟ لأنها تؤمن بالحوار كتكتيك وليس كاستراتيجية، فالنظام السوري صار اليوم في أسوأ وضع في تاريخه الحديث، وربما تظن الحكومة أن إجراء حوار سوف ينقذها من الانهيار الوشيك. إلا أن ما يدعو للأسف هو وجود بعض الصدامات بين العلويين والسنة في سوريا، وعندما تغلق الحكومة الباب أمام الحوار وتلجأ بدلا منه إلى استعمال المدافع، فإن الشعب سوف يستعمل الوسائل نفسها، وسوف يكون لدى كل شخص مبرر لما يفعله.

وعندما نلقي نظرة شاملة على العالم الإسلامي، يمكننا أن نرى الكثير جدا من الصدامات بين المذاهب، ففي أفغانستان وباكستان والعراق واليمن ولبنان، وأخيرا وليس آخرا في سوريا، فقد الكثيرون أرواحهم بسبب هذه الصدامات، وهناك حالات قام فيها الجانبان المتصارعان بمهاجمة وقتل بعضهما البعض بينما كان الضحايا يؤدون الصلاة، ولكم أن تتخيلوا مدى تأثير هذه المشكلات على نظرة العالم تجاه الإسلام والمسلمين. وكما قال الشاعر:

يوم يكون الناس كالذئاب الضواري

ومن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب

وهذه هي مغبة انعدام الحوار بين الناس، فغياب الحوار قد يجعل كل إنسان يتصور أنه صاحب الحق المطلق وأن الآخرين على ضلال. ومن الواضح جدا أننا نحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى إجراء حوارات بين المذاهب، أو بالأصح نحتاج إلى حوار بين المفكرين الدينيين وعلماء العقيدة والفقهاء والمفسرين. وما من شك في أن علماء المسلمين يلعبون الدور الرئيسي في إجراء أو غياب أي حوار، فمن الممكن تشبيه دورهم برمح تيليفوس، الذي روى المؤرخ الإغريقي بلوتارخ أنه كان بإمكانه أن يقتل وأن يشفي أيضا، غير أنهم للأسف غالبا ما يتسببون في القتل بدلا من الشفاء. ويبدو أن مبادئ الحوار التي جاء بها القرآن مختلفة تماما عن وجهات نظر بعض العلماء، فالإسلام كعقيدة يدعو إلى الحوار، كما أن القرآن بكل تأكيد هو كتاب الحوار. وإذا كان القرآن يعلي من شأن الحوار بين الأديان وبين البشر، فمن الطبيعي للغاية أن يعلي أيضا من شأن الحوار بين المذاهب.

1) فالخطاب الإسلامي يقوم على الحوار، ولهذا لا نجد في القرآن «يا أيها المسلمون» أو «يا أيها العرب»، بل نجد «يا أيها الناس». وفي رأيي أن الإسلام يؤكد على التحاور مع الغير أكثر من أي دين آخر، وكما تقول الآية الشهيرة:

«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (سورة النحل: 125)، فهذا هو جوهر الحوار.

وفي التصور القرآني، يوجد فارق دقيق بين الحسن والأحسن، فعندما نريد التحدث مع شخص يعارض وجهة نظرنا، لا بد أن نتحدث معه بالأحسن وليس بالحسن.

2) الإسلام يقبل جميع الأديان الكبرى في العالم، مثل اليهودية والمسيحية والزرادشتية، بل حتى الصابئة، ويدعوها جميعا إلى الحوار والوصول إلى كلمة سواء فيما بينها.

3) عندما يدعو الإسلام والقرآن جميع البشر والمؤمنين إلى الحوار، فهو في الواقع يدعو جميع المسلمين إلى إجراء حوار فيما بينهم، وهذه الدعوة تقوم على الحكمة والعقل والمبادئ.

4) درجنا هذه الأيام على رؤية مجازر ما بين المسلمين وبعضهم، ولا أريد أن أضرب لكم أي أمثلة. وكما يقول الإمام علي: «والله.. يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم».

وقد ترك سامي البغدادي من تورينو في إيطاليا تعليقا مهما على مقالة طارق الحميد بعنوان «الحوار بين المذاهب» التي نشرت بتاريخ 16 أغسطس (آب):

«انتهى الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت والكنيسة الإنجليزية وتوحدوا! لماذا لا يمكن أن يتوحد المسلمون، كما تقول؟ هل هم ليسوا من صنف البشر الذي يستعمل عقله ولسانه للتفاهم؟ أم أنهم من المخلوقات التي تستعمل أطرافها الأربعة في النقاش؟!».

ويمكنكم أن تروا حسا فكاهيا قويا في هذا التعليق، إلا أنه من المحزن أن بعض المسلمين يذبحون مسلمين آخرين، ثم يلتقطون الصور وينشرون هذه الأفلام على الإنترنت فيما بعد. وهم يزعمون أنهم يتبعون الإسلام الحقيقي، وأنهم يريدون إقامة خلافة إسلامية.

وفي البلدان الإسلامية، نجد لدينا جماعة الأكثرية وجماعة الأقلية عندما يتعلق الأمر بالمذاهب. ففي إيران على سبيل المثال، يمثل أهل السنة الأقلية، أما في معظم البلدان الإسلامية الأخرى، فإن الشيعة هم الأقلية. وهم جميعا بحاجة إلى تقبل بعضهم البعض، واحترام حقوق بعضهم البعض، والامتناع عن التورط في أي صدامات وصراعات، فنحن كمسلمين نعيش جميعا في قارب واحد يبحر وسط عاصفة سياسية، وعلينا أن نؤمن بأن دماء السنة والشيعة لها نفس القيمة، فجميعهم يؤمنون بكتاب واحد ونبي واحد ومبادئ واحدة.

وقد أرسل آة الله العظم البروجردي واحدا من أهم كتب الشيعة - وهو كتاب «الشريعة» - إلى الشيخ شلتوت ثم سأله: هذا هو فقه الشيعة، فهل ترى أننا مسلمون؟ وكانت هذه هي الخطوة الأولى في حركة عظيمة، أثمرت عن قبول الأزهر الشريف لأول مرة فقه الشيعة باعتباره فقها إسلاميا. وهذا المثال يوضح الطريقة التي لعب بها كبار العلماء الدور الرئيسي في دعم الحوار، فهذه هي مسؤوليتهم الرئيسية.