شرعية الحكم فوق أنهار الدم

TT

«عندما يخاف الناس من السلطة يحل الطغيان، وعندما تخشى السلطة الناس تقوم الحرية» (توماس جفرسون)

عندما جئت إلى بريطانيا، قبل 34 سنة، من لبنان تمزّقه الحرب فوجئت بعدة أشياء. وكان بين أكثر ما فاجأني منها أن الشرطي الذي يجول في أحياء لندن – يومذاك – ما كان يحمل سلاحا ناريا، بل عصا صغيرة وزوجا من الأصفاد التي تستخدم للسيطرة على مشاغب هنا ومخمور يضايق المارة هناك.

هذا المنظر كان غريبا علي أنا الآتي من بلاد قيل فيها «إن السلاح زينة الرجال».. بل والنساء والأطفال أيضا. وهكذا حملت استغرابي إلى الصديق الصحافي الرياضي المعروف أكرم صالح، رحمات الله عليه، واستوضحته السبب. فابتسم وقال لي «هناك نمط تعايش بين مخالف القانون ورجل الأمن تحول بمرور الأيام إلى عُرف أو تفاهم غير مكتوب.. فطالما بقي رجل الأمن محافظا على هيبته من دون سلاح فإن المخالف لن يضطر للاستعانة بالسلاح، وبالتالي العنف القاتل، غير أن استخدام رجل الأمن السلاح الناري سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى تسرب السلاح الناري إلى مخالف القانون. وهكذا ستتحول شوارع مدن مثل لندن إلى نسخ عن شوارع بعض المدن الأميركية في عز أيام (المافيا)..».

خطر لي كلام الصديق العزيز الراحل، وأنا أتابع مشاهد «الحكم بقوة السلاح» كما يمارسه نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا.

كثيرة هي الملاحظات التي تنتقد ممارسات الثوار، ومنهم عسكريو «الجيش الوطني الحر»، وأزعم أن أصحاب هذه الملاحظات، بل والانتقادات، على حق في كثير من الحالات.

أيضا أصبحت واثقا من أن ثمة فصائل مسلحة تتحرك وتنشط في سياق الثورة، في بضع مناطق سورية، لها أولويات خاصة بها قد لا تكون في نهاية المطاف مطمئنة لسائر السوريين، ولا تخدم مصالح الثورة.

هذا واقع لا بد من الاعتراف به بصرف النظر عن الأعذار. ولكن هنا ينبغي التساؤل عما جعل هذا الواقع ممكنا.. كي لا نقول إنه أوجده وسعى إلى تعميقه؟ أي منطق سياسي؟ أي ذهنية؟ أي أخلاق؟

في الدول السوية القابلة للحكم تكون السلطة تكليفا لا تشريفا، ويكون الحاكم خادما للشعب لا سيدا عليه، ويكون أهل السلطة مؤتمنين على الصالح العام. ولهذا يؤدي الحاكم عند توليه مسؤولياته اليمين، ويقسم على احترام النظام، ولكنه يقسم قبل ذلك على حماية الشعب. ولذا في بعض الدول المحترمة تستقيل الحكومات ويستعفى سياسيون عند وقوع حوادث لا يكونون مسؤولين عنها مباشرة، مثل التقصير في التحسب لفيضان، أو البطء في تأمين الغوث بعد زلزال، أو التعرّض لإحراج انكشاف تقاضي وزير ما من وزراء الحكومة رشي.. أو تورّط في علاقة غير مشروعة.

ولكن في عالمنا العربي ما نشهده وشهدناه خلال العامين الأخيرين مخيف ومؤلم حتى في ضوء المعايير العربية المتدنية لممارسة السلطة. فالحكم بالتمادي، عبر عقود، .. لا يشبع من الحكم ولا يكتفي بجني ثمار التسلط بمفرده، بل يوزع خيرات التنعم برقاب الناس على الأقربين والمحاسيب.

ثم إن الحاكم المنشغل بترتيب الفوز بالاستفتاءات والانتخابات بأكثر من 90 في المائة، سنة بعد سنة، وعقدا بعد عقد، لا وقت لديه للتساؤل عما إذا كان يحق للشعب محاسبته. أبدا، فدور الشعب «المبايعة» فقط.. كما قال عبد القادر قدورة رئيس مجلس النواب السوري السابق يوم تعديل الدستور خصيصا لتسهيل وراثة بشار الأسد عرش والده الراحل.

ثم لا يتحمل الحاكم أي مسؤولية تقصير، إزاء نشوء مناطق أو جيوب خارجة عن سلطة الدولة.. تتراكم فيها مشاعر العداء المذهبي والديني والعشائري والعرقي. ومن ثم، عندما تتيح لها الظروف تتحول هذه المناطق والجيوب إلى بؤر مسلحة تواجه أهل السلطة – أو بالأصح، التسلط – بالعنف المسلح الذي هو اللغة الوحيدة التي يفهمون. وهذا حقا ما شهدناه في بعض دول «الربيع العربي».

وفي سوريا، إحدى هذه الدول، انكشف كذب شعارات النظام منذ سنوات كثيرة.

فلا ديمقراطية في دولة تركب فيها الأغلبية البرلمانية تركيبا تحت قيادة «حزب قائد» سَلَفا قبل إجراء الانتخابات. ولا عروبة في دولة تتخذ قراراتها السياسية الاستراتيجية اليوم خارج حدود العالم العربي، ويشك أنها على علاقة جيدة مع نبض الشارع العربي. ولا اشتراكية في دولة تتحكم بثرواتها الطبيعية ومؤسساتها ثلاث عائلات، بجانب المستفيدين منها والمتعاونين معها. ولا «تحرير» أو «مقاومة» أو «ممانعة» في دولة لا يطلق جيشها طلقة واحدة على محتلي أرضها.. ولا تقاتل إلا عبر المسلسلات التلفزيونية وأجساد مواطني الدول المجاورة. ولا مجتمع مدني حيث لا فصل حقيقيا بين السلطات.. بل تتولى الحكم «مافيا» أمنية عائلية طائفية خلف واجهات مدنية مفتعلة تجسدها «ديكورات» تحمل مسميات مثل مجلس الشعب ومجلس الوزراء. وبالتالي، فلا النائب نائب حقيقي مهمته التشريع، ولا الوزير وزير حقيقي في حكومة منتخبة شعبيا على أساس برنامج سياسي مطلبي.. ومسؤولة فقط أمام الشعب. ولعل في هذا ما يساعد على فهم أسباب إحجام نسبة عالية من النواب والوزراء عن الانشقاق عن نظام قتل حتى الآن من شعبه أكثر من 25 ألف نسمة خلال أقل من سنتين.

عودة إلى السلاح... والثورة عندما تلجأ إلى التسلح..

أذكر كيف انتقدت كما انتقد غيري في حينه «عسكرة» الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى). لكنني أذكر أيضا أن تلك الانتفاضة استدرجت الفلسطينيين إليها زيارة آرييل شارون إلى المسجد الأقصى، بعدما أحرجت الانتفاضة الأولى (انتفاضة أطفال الحجارة) سلطات الاحتلال بسلميتها.

كانت الانتفاضة الثانية «المُعَسكرة» استدراجا محسوبا من جانب اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي كان يعرف المدى الذي يريد الوصول بها إليه.. ومن ثم تبرير قمعها بالطريقة التي يختارها.

الشيء نفسه، حصل ويحصل الآن في سوريا.

هنا نرى نظاما فاشيا مشابها في منظومة قيَمه لليمين الإسرائيلي، وقد بوغت بسلمية الانتفاضة التي أطلق شرارتها أطفال درعا، فسعى بمرور الوقت لدفعها أكثر فأكثر نحو التطرف – الطائفي وغير الطائفي – والعسكرة، عبر القبول اللفظي بالمبادرات السلمية ثم الانقلاب عليها. ومن ثم اعتمد التصعيد التدريجي للقمع الدموي باستخدام أسلحة أشد فتكا.. من الذبح بخناجر «الشبيحة» إلى القصف بالمدفعية واقتحام الدبابات.. ووصولا إلى الطيران الحربي.

قبل مئات السنين أيام القتال بالسلاح الأبيض كان هناك توازن بين الشعوب والجيوش. غير أن ميزان القوى العسكري التقليدي لا يقوم في أي بلد اليوم بين الجيش والشعب. وأي رئيس دولة كبرى، بفضل التقدم الهائل لتكنولوجيا السلاح، يستطيع تدمير مدن بلاده جميعا، وفي الدول النووية بمقدور القيادة إفناء شعبها بـ«كبسة زر».

وبناء عليه فالمسألة اليوم في سوريا، وغير سوريا أيضا، ليست حول أيهما أقوى؛ جيش النظام؟ أم منتفضي الشعب؟، بل هل من يأمر الجيش – أي رئيس الدولة – مؤتمن حقا على حماية الشعب؟!

هل يبقى لأي رئيس يقتل شعبه، مهما كانت المبررات، أي حق في حكم ذلك الشعب؟

الإجابة عند السيد الأخضر الإبراهيمي.