ليته يقرأ رضوان السيد!

TT

كتب الأستاذ رضوان السيد، الجمعة الماضية، مقالة جديرة بالتأمل والقراءة مليا، خصوصا في هذه المرحلة التي نعيشها مع صعود التيارات التي ترفع شعارات دينية تسوق بها برنامجها السياسي.

رضوان السيد من أهم المتخصصين في العالم الإسلامي في قضايا «الفقه السياسي»، منذ عدة عقود، وهو أزهري في جانب، ودارس أكاديمي في ألمانيا في جانب آخر، ومحاضر في عدة جامعات حول العالم.

من طروحاته المهمة تركيزه على تحديد المصطلحات والمعاني المتعلقة بمفاهيم مثل: الشريعة والشرعية، الدين والدنيا، الدولة والمجتمع والأمة. وهي نفس الحلبة التي ترمح فيها العاديات الأصولية.

مشكلتنا في العالم العربي هي في ترديد المصطلحات دون التأمل في مضامينها، وما يعنيه الطرف المقابل منها. ومن ذلك كلمة «المدنية» كوصف للدولة وشرط لها، وقد كُتب وقيل الكثير في الإعلام المصري بين مؤيدي فكرة الدولة المدنية نفسها، ولكن تبين في النهاية أن أنصار التيار الإخواني والأصولي بشكل عام، مثل فهمي هويدي، كانوا يفرغون المصطلح من معناه العتيد، وهو النقيض للدولة الدينية الثيوقراطية، ليضعوه نقيضا للدولة «العسكرية»، في مناورة لفظية تنطوي على قدر لا بأس به من البراعة.

ليس مصطلح «المدنية» الوحيد الذي تعرض للإزاحة والتفريغ وإعادة التعبئة؛ فثمة كثير من هذا، وقد كان مثيرا للتأمل والعجب، كيف تصالح الأصوليون الثائرون مع فكرة الديمقراطية، بعد أن كانت رجسا من «الجاهلية الجديدة» حسب سيد قطب وكل أطياف الإسلاميين، واستخدموا الديمقراطية، بعد جولات من النقاش والتأصيل الداخلي في دائرة الجدل الفقهي، على سبيل الاضطرار و«ارتكاب الضررين لدفع أعلاهما»، وما زال بعض الإسلاميين رافضا لهذه التخريجة الفقهية، ومقيما على موقفه الأول بـ«الجهاد» التام الناجز الذي يزيل كل أوضار الجاهلية ويعيد التأسيس من جديد على المحجة البيضاء، كما رأينا في تصريحات محمد الظواهري - الشقيق الأكبر لزعيم «القاعدة» الحالي أيمن الظواهري، كما في مقابلة له نشرت بجريدة «الشرق الأوسط» قبل عدة أيام.

من هنا، يصبح التأمل والفهم الواعي لمثل هذه المصطلحات التي يحقن بها الأصوليون الفضاء الثقافي والسياسي ويرددها البعض إما بتسليم مطلق لهم، دون نقاش، بل يعتقل نفسه في شبكة المفاهيم التي وضعوها ومن ثم يحكم على موقفه وحججه بالضعف أو الفناء أو اللاجدوى منذ البداية، أو يكون أساسا تابعا لهم حتى ولو لم يكن «منخرطا» في أعمالهم وأنشطتهم السياسية والدعائية، وهؤلاء يمثلون قسما كبيرا من مدعي الثقافة في العالم العربي.

سيد قطب، الذي يمثل أيقونة من أيقونات التيارات الأصولية، ردد كثيرا، وبشكل شعري، كلمة الجاهلية الجديدة، والتغني بالشريعة، وحكم كلمة الله، وقد قرأت مؤخرا للمرة الخامسة ربما، كراسته المسماة (معالم في الطريق) وهي تلخيص كثيف لكل ما قاله في كتابه الضخم (في ظلال القرآن) وتدور حول فكرة أساس، هي أننا نعيش الآن مرحلة جاهلية جديدة، وأن الجاهلية تعني الخروج عن سلطان الله، وأنه لا يوجد عالم مسلم حقيقي، ولذلك لا بد من إعادته وجعل الشريعة هي الحاكمة، لكنه لم يتوقف عند معنى الشريعة، فهو أساسا لا علاقة له بالمعنى الدقيق بمفهوم الشريعة فقهيا وتقنيا، هو يتصور، أو هكذا يوحي كلامه، بشكل مثالي شعري أن الشريعة شيء محدد مقولب، موضوع على رف ما، يؤخذ هكذا بكليته ويوضع كما هو في مكان ما في ماكينة الدولة والمجتمع فيصبح الأمر نقيا وشرعيا، وهذا طبعا فهم ساذج ومختل وغير تاريخي لمعنى الشريعة التي هي في النهاية نتاج التفاعل البشري مع النص المقدس، فهي تنطوي على أدوات ونتائج من فعل البشر أنفسهم، مثل القياس والمصالح والاستحسان... إلخ.

من هنا، تصبح الخطورة ماثلة ومتحققة في الجهل بمثل هذه المصطلحات وترديدها بشكل شاعري، وتمنح من يشتهي السلطة سلاحا خطيرا على العامة، مثلما يحصل الآن في بلدان الربيع العربي، وقد رأينا مثلا واضحا: كيف تحول قرض صندوق النقد الدولي من حرام إلى حلال، في أرض الكنانة بتغير من يدير دفة الأمور..!

من أهم ما توقف عنده رضوان السيد في هذا الصدد قوله: «لدينا اليوم أربع مشكلات كبرى مع الإسلام السياسي: مشكلة اعتبار الشأن العام (المصلحي) شأنا دينيا. ومشكلة معنى الشريعة (النظام الكامل الذي يراد تطبيقه). ومشكلة من يطبق الشريعة؟ ومشكلة البيئات التي يراد فرض الشريعة عليها».

ثم يفكك بسرعة وبما يسمح به السياق هذه «الألغام» الخطيرة في الخطاب الأصولي المسيس، فيشير إلى أن «الشأن العام» هو حق الأفراد أو حق العباد وليس حق الله أو الدين. وقد كان الاختيار في الإمامة أو النظام السياسي هو مذهب أهل السنة، أي الأفراد أو المواطنين بلغة العصر.

ثم يشرح معنى الشريعة التي يدور عليها مجمل خطاب الشرعية السياسية لهذه التيارات الأصولية، فيشير إلى أن الشريعة التي يراد تطبيقها، ليست محددة المعالم في المسائل الدنيوية أو أكثرها، بعكس العبادات الشديدة التحديد. وعندما أراد الفقهاء بلورة تأثيرات إيجابية للشريعة في الشأن الإنساني العام ذكروا الضرورات الخمس واعتبروها مقاصد للشريعة، وهي: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق الكرامة، وحقّ المِلْك. وهذا يعني التزامات أخلاقية، وأخرى قانونية. لكنها اختيارات كبرى وعامة، ولا يمكن أن يُلزمَ بها على نحو محدد اجتهاد إمام أو عبقرية فقيه. ولدينا في المسائل الدينية عشرات المذاهب، فكيف بالمسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟!

وأخيرا، يتوقف عند سؤال يكشف المغطى المصلحي السياسي في احتكار تمثيل الشرعية والراية الدينية والوصاية على تطبيقها، يقول: «ثم من الذي يكون له (الحق) في تطبيق الشريعة غير المحددة هذه (يعني بحسب اجتهاده!) في الدولة؟ الإسلاميون يعتبرون ذلك واجبا أو تكليفا، وهم (يكلفون) أنفسهم في الحقيقة بحكمنا من أجل تطبيق شرع الله بحسب اجتهادهم!».

لقد أفضت في هذه النقول عن رضوان السيد، بغرض لفت الانتباه إلى هذه الأسئلة الجوهرية التي يجب أن نصحبها معنا دوما في هذه النقاشات التي يبدو أنها ستظل معنا كثيرا.

ثمة أمر خطير وهو أنه في ظل عصر الـ«تويتر» والهواتف الذكية أصبحت القراءة الجادة لدينا عملة نادرة، وهي أصلا كانت تعاني شحوبا وضعفا قبل هذه الصرعات الحالية، فكيف بعدها؟! فكيف يصنع من يريد تحرير عقله وتفكيره من شبكة الفخاخ المفاهيمية التي تنصبها ماكينة الدعاية والتثقيف الأصولي المسيس؟! يصبح الجهل خطيرا بمثل هذه الأمور في كل الأحوال، وهو، أي الجهل، يصبح قاتلا وليس خطيرا فقط في ظل قيادة مثل هذه الجماعات للمناخ السياسي والإعلامي والثقافي.

إن ما نراه اليوم من تراجع كبير في كل شيء، وهيمنة الدروشة السياسية الدينية والاجتماعية والإعلامية، هو نتاج سياق قديم من التخطيط للوصول إلى هذه اللحظة، ونتاج سلسلة من مراهقات وأخطاء النخب الثقافية والسياسية. فهمها واستيعابها قمين بعدم تكرارها.

توقف الناقد التونسي المعروف عبد الوهاب المؤدب، صاحب كتاب (أوهام الإسلام السياسي)، في حوار أجراه الصحافي السويسري المختص بشؤون المغرب العربي (بيآت شتاوفر) وترجمه عبد اللطيف شعيب، لصالح الناشر «موقع قنطرة» 2007، عند ملاحظة نافذة، وقال: «كان الإسلام التقليدي منذ القرن التاسع عشر منشغلا بتطور شائق للغاية. وكان من الملاحظ وجود إرادة تتكيف مع ظروف العصر وتضع خططا مناسبة للتطوير. أما اليوم فطريقة التفكير هذه في طريقها للزوال».

بكلمة: ليكن ما يجري الآن فرصة لنا لإعادة تثقيف أنفسنا بسادة المشهد الجدد، وفكرهم وتاريخهم وتياراتهم.

[email protected]