انهيار منطقة اليورو.. «أزمة قلبية» لأوروبا

TT

خلصت الأصوات التي تحظى باحترام هنا وتمثل الاتجاه السائد إلى أن منطقة اليورو ربما لم تعد تمتلك مقومات الاستقرار. من هذا المنظور الذي ظهر مؤخرا، سيكون من الأفضل بالنسبة لأوروبا الانفصال الآن لا في وقت لاحق حين تكون التكلفة أكبر بكثير. مع ذلك، يشمل هذا المنظور ما هو أكثر من ذلك. لا ينبغي أن يكون هناك شك في أنه إذا تمزقت منطقة اليورو تماما، ستنهار أوروبا بصفتها سوقا موحدة وربما ينهار الاتحاد الأوروبي.

على المدى القصير، سيكون تمزق منطقة اليورو مثل أزمة قلبية اقتصادية ومالية لأوروبا، وسيتوقف تدفق البضائع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود الأوروبية مع سيطرة المخاوف من قيمة العملة على حسابات التقييم العادية، وسوف يغذي التباين الكبير بين العملات قلق وتوتر الشركات المالي وقد يؤدي إلى كثير من حالات التخلف عن السداد، وكذلك قد يرتفع معدل البطالة، وستتم عرقلة تقديم الخدمات المالية الأساسية، بداية من القطاع المصرفي ووصولا إلى قطاع التأمين، مع ازدياد احتمال سحب كثير من العملاء ودائعهم من المصارف في دول منطقة اليورو الأكثر ضعفا.

وستزداد القيود، مع سعي الدول ذات الاقتصادات الضعيفة لتقييد الزيادة في هروب رؤوس الأموال ومقاومة الدول ذات الاقتصادات القوية تدفق رؤوس الأموال الكثيف.

في هذه العملية، سيتقوض عمل السوق المشتركة الذي يدعم مشروع وحدة وتكامل أوروبا. سيعقب عملية تقسيم المصارف والأسواق المالية وأسواق الديون الحكومية المستمرة بالفعل تقسيم تجارة السلع والخدمات والعمل ورؤوس الأموال والعودة إلى قيود حماية التجارة والمال.

وخفضت تلك الدول، التي تضررت لسنوات عديدة بسبب إدارة الأزمة الاحتياطات الداخلية أو منعتها تماما لتمتص صدمات جديدة. نتيجة لذلك، من المرجح أن تغذي العوائق الاقتصادية والمالية الاضطرابات الاجتماعية وأشكال الخلل السياسية مما ينتج عنه الدعم القومي للتكامل الأوروبي. وفي الوقت الذي ستكون فيه الدول ذات الاقتصادات الناشئة (الهامشية سابقا) هي أول دول تشعر بالألم الناتج عن الكارثة، ستتلقى الدول الأقوى (الأساسية سابقا) ضربة قوية. فلننظر إلى كل منهما على حدة.

وعندما تعود الدول الأضعف في منطقة اليورو إلى استخدام عملتها القومية القديمة، ستسعى إلى السيطرة على مجموعة أكبر من الوسائل السياسية. وبهذا ستكون لديها وسائل أكبر من أجل تحقيق مكاسب تنافسية ضرورية لاستعادة ديناميات النمو وتوفير فرص عمل، لكن يتطلب القيام بذلك إدارة ماهرة لخفض كبير في قيمة العملة. لذلك سيكون عليها مواجهة ضغوط التضخم الكبيرة وارتفاع تكاليف الاستيراد وتعثر القطاع المصرفي وقنوات نقل النقود وارتفاع علاوة المخاطرة. ومع تعثر أوروبا ككل، ستشهد خطر تآكل في مزايا فرق الأسعار من خلال تخفيض قيمة العملة بسبب انهيار الطلب في المنطقة. وبالنظر إلى التباين بين العملات، تتضمن العودة إلى العملات القومية على نطاق واسع سلسلة من حالات التخلف عن السداد فضلا عن بعض عمليات إعادة الهيكلة الإجبارية والاضطرار إلى تحويل عملات اليورو إلى عملات قومية جديدة منخفضة القيمة. وتمثل أمور الطلب في المنطقة والتخلف عن السداد أهمية أيضا بالنسبة للدول ذات الاقتصادات القوية، فرغم المكاسب التي حققتها في التنوع التجاري بما في ذلك إعادة توجيه أكبر نحو الدول الناشئة، فإنه لا تزال كمية كبيرة من صادراتها تباع في أوروبا.

وسيحدث هذا الانهيار في السوق عقب وقوع الخسائر بسبب المطالبات المالية التي تتآكل سريعا من الدول ذات الاقتصادات الضعيفة التي تتعثر في تسديد ديونها الأوروبية المستحقة، سواء على نحو مباشر أو عن طريق الحاجة إلى إعادة رسملة مؤسسات المنطقة كما هو مرجح. وستعوق إعادة هيكلة الديون وحتى التخلف عن السداد ميزانية المؤسسات الدائنة، مما يزيد ديونها، لأنه سيكون لديها الأصول نفسها، لكن مع التزامات مالية أكبر، وكذلك ستزيد تكلفة رأس المال.

وكذلك سيتعرض التصنيف الائتماني الممتاز لألمانيا والدول الكبرى في منطقة اليورو للخطر، وسيمتد ذلك أيضا إلى باقي العالم، حيث لا تزال أوروبا أكبر منطقة اقتصادية وأكثرها ترابطا من الناحية المالية في العالم، وبهذا ستنتقل العراقيل والمشكلات حتما إلى باقي العالم. ومع بذل الولايات المتحدة جهدا كبيرا بالفعل للحفاظ على نمو اقتصادي معقول والقدرة على توفير فرص عمل، سيحدث ركود عالمي. وبطبيعة الحال، كل هذا يفسر سعي الخطابات السياسية باستمرار إلى استبعاد تمزق منطقة اليورو، ولهذا السبب أيضا يضغط قادة الدول الأخرى على نظرائهم الأوروبيين من أجل معالجة الأزمة الأوروبية بعزم أكبر وبطرق بديلة.

مع ذلك، لا تكفي الكلمات والحجج الأخلاقية للتصدي إلى قوى التمزق والتشرذم التي تدعمها عيوب تكوينية أساسية وسنوات من الأفعال السياسية التي كانت مرحلية أكثر منها استراتيجية؛ ومتتابعة أكثر منها متزامنة؛ وجزئية أكثر منها شاملة. وسيكون لدى القادة فرصة لتجاوز التوترات الداخلية المستمرة والاتفاق على إجراء من المحتمل أن يغير شكل اللعبة، فقط إذا أدركوا هول ما يواجهونه من مخاطر. وعند هذه اللحظة سيصبحون قادرين على إقناع المواطنين المتشككين بضرورة اتخاذ خطوات غير مسبوقة حقا؛ أولها إصلاح منطقة اليورو بحيث تصبح أصغر وأكثر تماسكا وكفاءة وبتكوين أكثر قوة تتم إدارته بطريقة أفضل. وثاني هذه الخطوات ضمان قدرة منطقة اليورو هذه، التي تمت إعادة هيكلتها، على تحقيق نمو وتوفير فرص عمل. وثالثا حماية شمولية عمل الاتحاد الأوروبي.

وبعد تخاصم وشجار وتردد قادة الدول الأوروبية لفترة طويلة، لم يعد متاحا أمامهم حل مثير للاهتمام وغير مكلف نسبيا وناجع لأزمة الديون التي تمر بها المنطقة. وما بات لديهم هو بعض الوقت، حتى وإن لم يكن كثيرا، لمحاولة الدفاع عن وحدة وتكامل مشروعات المنطقة من خلال اتخاذ خطوات جريئة الآن بدءا باتحاد اقتصادي مالي مصرفي، واتجاها نحو اتحاد سياسي.

ولكن النتيجة غير مضمونة بأي حال من الأحوال، وستكون هناك حتما عوائق فورية، لكن كل هذا يعد هينا مقارنة بالكارثة المقبلة عليها أوروبا والعالم إذا استمرت أوروبا في تبني نهج لا يفي بالكثير ويكون دوما متأخرا.

يجب أن تواتي ألمانيا والدول الكبرى جرأة تحديد ما إذا كانوا يعتقدون أن منطقة اليورو ستبقى وتصمد وبأي شكل سيتم ذلك. إذا كانت الإجابة بنعم، يحتاج السعي إلى اتحاد به نقائص أقل إلى تمويل رسمي كبير سواء كان حكوميا أم من البنك المركزي الأوروبي وغيره للدول الهامشية من أجل تخفيف أثر الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة من خلال التقشف والإصلاح وتخفيض قيمة العملة.

وعلى العكس من ذلك، إذا كانوا يعتقدون في عدم قدرة منطقة اليورو على البقاء وفي عدم القدرة على إنشاء اتحاد أصغر، ستكون تكلفة تفكيك المنطقة بشكل مضطرب في وقت لاحق أكبر من تكلفة تفكيكها الآن. وما ينبغي ويجب أن لا يحدث هو أن تظل منطقة اليورو عالقة في وضعها المضطرب الحالي.

* نيكولاس بيرغرون رئيس «مجلس مستقبل أوروبا».. ومحمد العريان الرئيس التنفيذي لشركة «بيميكو» العاملة في إدارة الاستثمارات العالمية.. ونوريل روبيني أستاذ بجامعة نيويورك ورئيس «روبيني غلوبال إيكونوميكس»