المشكلة ليست في الإعلام بل في «الثورة»

TT

خلال لقاء حزبي لحركة النهضة التونسية، انتقد رفيق عبد السلام، وزير الخارجية التونسي، حالة الإعلام في بلاده، متهما عددا من الصحف والمحطات الفضائية بشن حملات تشويه ضد أداء حركته في الحكومة، ولكنه نبه في الوقت ذاته إلى أن «الحكومة لا ترغب في السيطرة على وسائل الإعلام، لكنها في المقابل لن تسمح للإعلام بأن يتحول إلى منابر معادية»، ولعل السؤال الضروري هنا: معاد لمن؟

لقد أصدرت السلطات التونسية مؤخرا، مذكرة توقيف بحق مدير تلفزيون خاص اشتهر ببث برنامج سياسي ساخر تحت اسم «اللوجيك»، يتضمن نقد رموز من حركة النهضة الإسلامية، التي تقود الائتلاف الثلاثي الحاكم في البلاد بعنوان «القلابس»، وهي دمى متحركة ترقص وتغني وتجسم شخصيات حكومية وسياسية تونسية شهيرة، مثل راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، وحمادي الجبالي، أمين عام الحركة ورئيس الحكومة، ومنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية. البرنامج ليس جديدا، فهو مستوحى من برنامج «Spitting Image» البريطاني الذي اشتهر بتقليد شخصيات سياسية لأكثر من عقد من الزمان (1984 - 1996)، وتمت محاكاته في برنامج مماثل روسي في السنوات الأخيرة، حتى قامت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين بإيقافه.

ألا تذكرك هذه التحولات بشيء؟ فقد صدر قبل أسابيع عدة، قرار مصري بحبس رئيس تحرير صحيفة، ومالك محطة فضائية، قبل أن يصدر الرئيس المصري محمد مرسي قرارا تشريعيا يمنع الحبس الاحتياطي في قضايا النشر. هذه الأخبار تشرح حجم الضيق والحنق اللذين يشعر بهما القادة السياسيون الجدد في بلدان «الربيع العربي» تجاه الإعلام المنفلت - كما يقولون - وهو في الحقيقة أمر مبرر. فالسلطة، على الأقل في منطقتنا، لا تستطيع احتمال هذا النوع من السخرية والاستخفاف المرير بالرموز السياسية، ولكن الحقيقة هي أن المشكلة ليست في الإعلام، كما يظن القادة الجدد، بل في استمرار الحالة الثورية التي لا يزال بعض هذه الدول يمر بها.

ليس هناك شك في أنه لولا «الربيع العربي» لما كان لهذه القوى السياسية أن تصل إلى السلطة، ولكن من الصحيح أيضا، أن استمرار هذه الحالة الثورية بما تتضمنه من فوضى، وانفلات أمني، وانعدام لسلطة القانون، فيه تفريط بمصالح الدولة، بل واستدامة لحالة اللااستقرار التي تعانيها هذه الدول.

هل يعني ذلك التفريط في حرية الرأي، أو حق الإعلام في تناول رموز من المجتمع؟ لا، فتلك الحقوق يجب أن تظل محفوظة، لأنها جزء من حرية التعبير التي يجب أن تكون مكفولة في مجتمع ديمقراطي مدني، ولكن هناك فرقا بين انتقاد الشخصيات الاجتماعية بشكل كاريكاتيري ساخر، وبين التشنيع بها وتحقيرها لأجل التسفيه والاستخفاف. حتى في الغرب الذي اختبر عقودا طوالا من الحياة السياسية الديمقراطية، هناك قواعد غير مكتوبة لكيفية التعاطي مع الواقع السياسي، وإشارات اجتماعية توضح الفرق بين النقد والسخرية الهادفة، أو الترفيهية، وبين تلك التي يراد بها النيل والقدح في الشخوص ذاتها، وتلك التي تسهم في تطوير سلوكيات المجتمع، وممارسة السياسيين للسياسية وفقا للضوابط الاجتماعية.

على الرغم من تلك التجاوزات، فإن السياسيين والأحزاب الذين ينتمون إليها مطالبون بالصبر، والتحلي بأخلاق رياضية تتواءم مع الوظائف والمواقف التي يأخذون اليوم بزمامها، وجزء من ذلك يتضمن إتاحة الفرصة لأولئك الذين يرون أنه من الضروري نقد السلطة ورجالاتها. وعلاوة على ذلك، فإن المرحلة الراهنة تتطلب استيعابا أكبر لأولئك المختلفين مع برنامج النظام، أو أولئك الذين يرون في نقد النظام ضرورة تحتمها الممارسة الديمقراطية. بيد أن هناك درسا يجب أن يعيه القادة الجدد في بلدان «الربيع العربي» ممن سبقهم، وهو أنك لا تستطيع مهما طال الزمان أن تتحكم في مزاج الناس، فضلا عن اختياراتهم السياسية والاجتماعية. أيضا، أنت لا تستطيع أن تتجاوز طموحات مجتمعك أو مخاوفه، وهنا يمكن استحضار حقيقة مهمة، وهي أن السلطة بحد ذاتها مفسدة، وقد تخوف من ذلك مرة اللورد آكتون (1834 - 1902) المؤرخ والسياسي الراحل في أعرق البلدان الديمقراطية بريطانيا عندما قال: «إن السلطة مفسدة، ولكن السلطة المطلة مفسدة مطلقة، وفي هذا،غالبا ما يكون الرجال العظماء سيئين».

لذا، فلا بد من وجود روادع أخلاقية وسلوكية لأولئك الذين في مركز القوة. في هذا المجال بالذات لا بد من الإقرار بأن قادة «الربيع العربي» مطالبون أكثر ممن سبقهم بالخروج بنتائج مرضية على صعيد السياسات الداخلية أولا، قبل أن يتوفر لهم إجماع أو قبول بين مواطنيهم.

للأسف، ما نشاهده اليوم هو أن الأنظمة الجديدة معنية أكثر مما سبق باستدامة حكمها أكثر من أي شيء آخر، وما يثير القلق هو أن بعض هؤلاء السياسيين - وأغلبهم من التيار الإسلامي - يمارسون اليوم ما كان يمارسه خصومهم في السابق. فهم لم يتمكنوا حتى الآن من تحقيق الحد الأدنى من المطالب الشعبية التي يتظاهر الناس من أجلها، أي أنهم يعيدون تكرار نماذج الأنظمة التي سبقتهم، أكثر من كونهم يصنعون واقعا جديدا لمواطنيهم.

هنا يمكن الإشارة إلى أن الأنظمة «الثورية» الجديدة هي في الواقع غير قادرة حتى الآن على تجاوز آليات الماضي، فهي تريد من حيث تدري أو لا تدري - استعادة النظام السابق بما فيه من سوءات، وبما في ذلك احتكار المجال السياسي. وهناك دلائل واضحة على ذلك، ففي مصر تم تعيين ما يقارب الـ17 ما بين مساعد أو مستشار للرئيس، وهم في غالبهم من الإسلاميين، وليس هناك توضيح يتعلق بأدوار هؤلاء أو وظائفهم «job description»، فهل هي مجرد ترضيات سياسية لا أكثر. ماذا يصنع الرئيس بكل هذا العدد من المستشارين؟!

أيضا، في مصر نحن نشهد تحولا في ميزان القوى وتراجعات، فقد استطاع «الإخوان» إقصاء العسكر - ربما مؤقتا - عن العمل السياسي، وتراجعوا عن بعض وعودهم بإشراك القوى السياسية الأخرى، وحتى حين تم اختيار امرأة ورجل قبطي لكي يكونا مساعدين للرئيس، فقد جيء بأستاذة جامعية تنتمي للتيار الإسلامي، وشخصية قبطية غير بارزة، بل وتم تعيين عصام الحداد وهو عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان، أي أنه بعد 18 شهرا من انتفاضة يناير (كانون الثاني) تبدو المشاركة السياسية في مصر للفئات الاجتماعية أقل تنوعا مما هو مفترض.

تونس تعاني أيضا من ذات الأعراض، والتراشق اللفظي بين الرئيس المنصف المرزوقي وحزب النهضة، لا سيما اتهامه لهم بالسعي لـ«السيطرة على مفاصل الدولة»، يوضح أن «الربيع العربي» يوشك على الانتهاء، وأن مخرجاته حتى الآن لم تعدُ أن استبدلت حزبا حاكما عسكرتاريا بآخر من التيار الإسلامي.

في مقاله الأخير «نسائم مرحلة الثورة المضادة»، ينبه د. محمد الرميحي إلى أن القوى الثورية المفترضة من اليسار والليبراليين مشتتون، ويتوقع أن تتفتت الكيانات والتحالفات التي نشأت ظرفيا بفضل الانتفاضات الشعبية لصالح بقاء القوى التقليدية مثل الإسلاميين كقوى مهيمنة، أي أنه خلال المستقبل القريب قد يتخلى الإسلاميون عن بعض الأحزاب الصغيرة أو الشخصيات غير الإسلامية في الرئاسة والحكومة، لأنهم لم يعودوا مضطرين لهذه الإكسسوارات التجميلية.

يقول صمويل جونسون، كاتب القاموس الإنجليزي: «حرية الصحافة هي نعمة عندما نعتزم الكتابة ضد الآخرين، ومصيبة عندما نجد أنفسنا مستهدفين من قبل الكثير من مهاجمينا».