عن السوريين والعيد!

TT

تظهر الصورة أربعة أطفال وأمهم «يحتفلون» بالعيد وهم يفترشون زاوية نائية من حديقة عامة شحيحة بالعشب والظلال، أطرقنا جميعا رؤوسنا وأشحنا ببصرنا هربا من عيون صغيرة تلاحقنا بالسؤال عما حل بهم، لا حاجة لتعرف من أي مدينة منكوبة قدموا، فالأماكن والدوافع متشابهة، وثمة مئات ألوف المشردين السوريين هجروا مساكنهم بسبب العنف والقصف العشوائي ويبحثون عن مأوى، وأغلبهم من الأطفال والنساء الذين صاروا فريسة للحرمان وللانتهاكات المتنوعة!

وتظهر الصورة، امرأة صغيرة تتشح بالسواد تقف في صبيحة العيد عند باب مقبرة، تتفحص وجوه القادمين ليقرأوا الفاتحة على أرواح موتاهم، تراها تتحرك بسرعة، ربما وجدت ضالتها، وتعرف بعد حين، أنها اطمأنت إلى إحداهن واستأذنتها المشاركة في قراءة الفاتحة على روح زوج قتل ولم تصلها غير بطاقة هويته ومفاتيح بيتهما المهدم، قال رفاقه أن عناصر أمنية سرقت جثمانه قبل أن يتمكنوا من تكفينه، غالبا كي يمنعوا مراسم التشييع التي عادة ما تتحول إلى مظاهرة عارمة ضد النظام، أمثالها كثيرات، وهناك ألوف الأسر والعائلات السورية لم تتسلم جثامين شهداء قضوا دفاعا عن حريتهم وحقوقهم!

وتظهر الصورة، عجوزا تهرول لاهثة ومتعثرة بثقل جسدها، تحاول أن تعترض طريق ضابط مسؤول في أحد فروع الأمن، حيث ابنها المعتقل منذ شهور، تحلم بأن تحظى في يوم العيد بفرصة لرؤيته أو إيصال بعض الحاجات إليه، تعاطف معها أحد حراس المبنى ونصحها بالانتظار على مقربة منه، كي ينبهها عند وصول رئيسه، ربما تتمكن من مقابلته وربما يلبي طلبها ويحقق لها «هذا الحلم العظيم!». ولا غرابة أو عجب، فثمة عشرات الألوف من السوريين هم في عداد المعتقلين أو المفقودين، ولا تحتاج إلى تأمل وتفكير كي تقدر المعاناة المضاعفة التي يعانيها ذوو السجناء مع استمرار غياب أحبائهم عنهم من دون علم أو خبر، بعضهم عرف مكان اعتقاله، بينما لا تزال غالبيتهم في عالم المجهول!

والحال، يكتظ العيد في سوريا بمشاهد مؤلمة وغزيرة عن شدة ما يكابده المهجرون وأسر الضحايا والمعتقلين، وتسمع قصصا عن مجازر مروعة وقتل مجاني كأنك في مسرح اللامعقول، وتلحظ حين تقترب من الوجوه، دهشة غريبة وعيون حائرة، كأنها تبحث في عيونك عن جواب للمأساة التي تعيش، أو كأنها تريد أن تتأكد من صدق مشاعرها بأن هناك من يشاركها حقا، آلامها وهواجسها، من يشاركها السؤال عن دوافع هذا العنف المفرط وأين «الحق» في إطلاق هذا الفتك المريع الذي تجاوز كل الحدود، أو كأنها لا تريدك أن تراها في حالة خوف، لا تريدك أن ترى في عيونها بعض العجز وربما الخجل من الإحساس بضيق الحال، كي لا يشي ذلك، ومن دون قصد، بأن ثمة تغيرا طرأ على عزيمتها وإيمانها بالثورة.

ربما تلمس في الأيادي المرتعشة وهي تصافحك، ثقل المعاناة ووطأة التوجس والقلق من شروط حياة تزداد سوءا، ومن تأخر لحظة الخلاص أمام قمع منفلت، لكنك تلمس غالبا روحا واثقة ومطمئنة، وتشعر ما إن يبادرك أحدهم بعبارة «كل عام وأنتم بخير» كأنه يقولها هذه المرة، ليس كعبارة دارجة، وليس لاعتقاده بأن التشديد على الرجاء قد يصيب بعضا منه، بل كأمنية أكيدة بأن الأمور ستكون بخير، وبأن مطلب الناس في التغيير وفي إزالة الاستبداد وإرساء قواعد الحياة الديمقراطية بات قريبا!

في هذا العيد يتجاوز السوريون عبارات التهنئة، إلى مفردات جديدة مفعمة بالأسئلة، عن موطن الهجرة، عن شروط السكن وطرق توفير الحاجات الأساسية، عن فقدان الأحبة، عن أحوال من هم تحت الحصار، من منهم لا يزال بخير ومن تعرض لأذى أو اعتقال، عن الأوضاع في المناطق الملتهبة ومجريات الصراع هناك، وعن الثمن والتكلفة التي لا يزال يتطلبها اجتراح المستقبل ومتى تسلم السلطة، بأن لا جدوى من القمع والتنكيل وبأنها عاجزة عن وقف التغيير.

هنا لا يصعب على المرء معرفة الأسباب التي أشاعت روح الإيثار بين الناس وولدت حقلا غير مرئي من التضامن والتكافل لتخفيف مصاب قطاعات واسعة من المجتمع السوري، وأبسط الأسباب، إذا وضعنا جانبا الدوافع السياسية والدينية، قد يكون نابعا من اتحاد هموم البشر ضد الموت والقتل اليومي وإيمانهم المشترك بحقهم في الحياة، فثمة شعور شائع بأن الجميع صاروا في «الهوى سوى»، كما يقول المثل الدارج، وأن من لا يزال سالما وآمنا اليوم قد لا تبقى أحواله كذلك غدا.

وهناك في بعض المناطق الهادئة نسبيا لا تخدعك جوقات صغيرة تصطنع فرح العيد وتبالغ في إظهار سعادتها وبهجتها، بعضها ربما لا يعنيه ما تحمله الأخبار اليومية عن المآسي والضحايا، وبعضها ربما لتفريغ انفعالاته الرافضة لما يجري ويعجز عن توجيهها ضد أغلال القهر التي تكبله، وبعضها كي يهرب من الكوابيس المرعبة وما رسخ في ذاكرته من صور مخيفة ومقززة للنفس عن المجازر والقتل المعمم في غير مكان، فوراء تعظيم هيصة الفرح ما يشي بالنواح وبأصوات تضمر مواويل حزينة!

عيد بأي حال عدت يا عيد!! لا نعرف إلى متى سوف نكرر هذا الشطر من شعر المتنبي، ولا نعرف إلى أي حد موجع ومدمر يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى صفحة الاستبداد، أو إلى متى يبقى الآخرون، عربا وعجما، يتفرجون على هذا العنف وهو ينهش لحمنا قطعة قطعة، وإلى النار المستعرة تأكل الأخضر واليابس، وتحصد البشر، زرافات ووحدانا، والأنكى حين يدمن بعضهم ما يجري، وتغدو المشاهد اليومية للاحتراب والقتل والاعتقال والإذلال أشبه بمشاهد روتينية يتابعونها وهم يحتسون قهوة الصباح أو يمضغون طعام إفطارهم ويتهيأون للالتحاق بأعمالهم، ربما لأنهم يدركون أن ثمة رمالا كثيرة في الطريق يمكنهم دفن رؤوسهم فيها!