تونس: بين «التكفير» و«التطهير»!

TT

باستثناء «تطهير القلب» في التصوف الإسلامي، فإن هذه المفردة بما تحمله من دلالات إقصائية تحمل معنى عدوانيا حال استخدامها تجاه الآخر، فضلا عن «الشريك السياسي»، من هنا فإن تصريح وزير الخارجية التونسي رفيق عبد السلام قبل أيام بأن الحكومة التونسية لا تسعى للسيطرة على الإعلام، لكنها تريد «تطهيره»، ليس قولا مرسلا أو فلتة لسان، لكنه مشروع حقيقي يتم التعبير عنه سرا وجهرا بألفاظ ودلالات أخرى لا تحمل ذات الصرامة.

وإذا كانت فلتات اللسان في القراءة الفرويدية هي أفعال نفسية قصدية تفضح أكثر مطامح الإنسان حميمية تحدث كتعويض وبديل للخطاب المحرّم اجتماعيا؛ فإن «التطهير» بمعناه السياسي هو إجراءات قمعية عتيقة للأحزاب الشمولية تقوم على تجريد فئات معينة من كل سلطة، وعادة ما تمارس عقب التغييرات الكبرى كالانقلابات والثورات.

وكما نعلم فإن الرفيق ستالين الذي تقدم في الفترة الأخيرة من حكم لينين نجم «التطهير السياسي» ليس على مستوى المنافسين؛ وإنما حتى الخصوم داخل الحزب كما حدث بينه وبين تروتسكي الذي حاول الانتفاضة ضده 1972 لأنه انحرف عن «نهج» الماركسية، إلا أن حملة «التطهير» خلفت ملايين الضحايا على رأسهم أغلب قادة الحركة الثورية في الأممية الأولى تروتسكي وكامينيف وزينوفييف وباقي الرفاق الذين لم يتبق منهم إلا لازار كاغانوفيتش صهره، وروزا زوجته الثالثة.

عودا إلى حديث رفيق عبد السلام - وهو بالمناسبة صهر الغنوشي - فإن التلويح بالتطهير لا يمكن أن يبرره استدعاء خصوم الأمس، وهم أعداء متوهمون اليوم، سواء في تونس أو حتى في مواقع أخرى كانت تدار بشكل «عائلي» في حين أن النظام بأخطائه وتناقضاته ومشكلاته هو نتيجة أزمة ثقافة سياسية عامّة حتى لدى المعارضة، آية ذلك أن الوصول إلى حالة الانسداد السياسي التي عرفتها تونس ولاحقا اليمن وحتى في بعض البلدان التي لم تشهد ثورات لا يمكن النظر إليها كمحصلة لأزمة طغمة سياسية حاكمة.

مشروع «التطهير» ليس وليد اللحظة فهناك تجاذبات سياسية شديدة التعقيد في تونس بسبب ديناميكية الحراك السياسي هناك وعدم قدرة «حزب النهضة» على ابتلاع الحالة السياسية كما هو الحال في مصر، فهناك عدة ممارسات على أرض الواقع ومع الإعلام تتعارض مع أبسط وعود ما بعد «الثورة»، وهي مسألة متوقعة بسبب أزمة أحزاب الإسلام السياسي في ملء الفراغ في طريقها نحو الحكم الشمولي، فليس هناك كوادر إعلامية جاهزة فضلا عن وجود بدائل نوعية فيما يتصل بالفنون شعرا ومسرحا ورواية وأعمالا تشكيلية وهي حقول تشكل عامل جذب في الميديا الحديثة لا يمكن لخطب ومواعظ وسياسة - وإن اتخذت قوالب «فنية» هزيلة - منافستها.

الصراع على الإعلام هو صراع هويّة وليس تجاذبا سياسيا على تجاوزات، من هنا فإن فكرة «التطهير» تبدو منطقية إذا ما أخذنا السياق التاريخي لها، كما أنها ليست حكرا على تونس، فكل البلدان التي يتسيد فيها الإسلام السياسي المشهد تسعى إلى «تطهير» مماثل لمفاصل إنتاج «الوعي» بعد أن يتقاسم منصّات التوجيه في الواقع الإسلاميون بمختلف أطيافهم مع تفوق للخطابات الأصولية الأقرب لابتلاع منابر الجمعة والمساجد والمناسبات الدينية بحكم تفوق بنائها الشرعي ومؤسساتها على طريقة الدرس التقليدي لعلوم الشريعة وهو الأمر الوحيد الذي حافظ عليه السلفيون كامتداد تاريخي وثري للحضارة الإسلامية وإن كان يمارس بانتقائية شديدة، على عكس الإسلام السياسي الذي في منزلة بين المنزلتين، فلا هو الذي يملك أسماء دينية بارزة على الصعيد الفقهي بسبب ارتهانه منذ نشأته على احتلاب التخصصات العلمية والسياسة «من دون كل العلوم الإنسانية» للإمساك بمفاصل مؤسسات الدولة.

حملة التطهير الإعلامي هي مرحلة أولى لحملات تطهير سياسية يتم طبخها على مهل، ومن هنا يمكن أن نقرأ ارتباك خطابات الرئيس التونسي الذي ما زال يتأرجح بين طهورية المعارض وبراغماتية السياسي حيث صرح مؤخرا بأن «النهضة» تسعى لـ«السيطرة على مفاصل الدولة» وهو تحذير من «تطهير» مرتقب، كما أن تمدد الحالة السلفية في شكلها المتشدد ربما سيسهّل من حملات التطهير بالاعتماد على تكنيك النفي «السلفي» الذي يقف عند حد «التكفير» ويدع «التطهير» للآخرين.

جزء من أزمة «حزب النهضة» أنه واقع بين إعلامين لم يستطع السيطرة عليهما، الإعلام السلفي الممتد على المنابر وخطب الجمعة والإصدارات الدينية واسعة الانتشار وهي ظاهرة لا تخص تونس وحدها، وقراءتها على أنه تصدير وهابي دخيل خطأ في الفهم تماما، فالظاهرة السلفية هي ظاهرة معولمة لها جذور مختلفة والسلفية المغاربية بالذات هي مزيج من سلفيات كثيرة منها الجهادية وحتى السلفية التي نشأت في الغرب بعد أن استقر فيه عدد كبير من قيادات المجموعات السلفية التي غادرت بلدانها بسبب أحكام الإعدام، بالطبع هناك أسباب كثيرة لمثل هذا الخلط لا يتسع لها المقال أبرزها على عجل أن السلفية ذات منهجية علمية متماسكة لكن بتطبيقات وقراءات مختلفة، فأبو قتادة مثلا يستدعي ابن تيمية تماما كما يستلهمه علماء يوصفون بأنهم علماء سلطة؛ لكن قراءتهم له مختلفة، فهناك سلطة للشرعية السلفية المبنية على مرجعية صلبة.

وبإزاء تمكن السلفيين من مصادر التلقي الدينية؛ فـ«النهضة» لم يستطع الإمساك بمفاصل الإعلام التقليدي الذي كان متوجسا من الحزب، ثم انقلب عليه الآن بسبب ممارساته التسلطية والتي أعادت كثيرا من قيم النظام السابق ولكن بحجج دينية، كما أن توجيه المعركة ضد الأحزاب العلمانية المفككة أسهل بكثير من الاقتراب من الجماعات السلفية المتطرفة، فأصبح خطاب النهضة تجاه الإعلاميين مزدوجا؛ للعلمانيين «التطهير»، وللأصوليين الاحتواء وعدم المواجهة والاكتفاء بالنقد ثم استغلال الظاهرة التي لا تخطئها العين لتقديم حزب النهضة كبديل معتدل وتحويل «السلفية» لفزّاعة.

وحتى لا نقسو على «النهضة» فإن من المهم القول إن جزءا من أزمتها في التعامل مع السياسة ما بعد الحكم؛ هو أنها حركة ما زالت في التجريب السياسي دون أن تختبر «النظرية السياسية» على مهل، فكتابات الغنوشي ومن دونه في الشأن السياسي فقيرة جدا لا تخرج عن تراث «الإخوان» الذي طوّر مفهوم حاكمية المودودي وسيد قطب إلى نظرية سياسة هجين عبر حقنها ببعض القفزات في بيئة الديمقراطية عبر بوابة الشورى.

على «النهضة» إذا أرادت أن تبقى أن تطهر قلبها ورؤيتها السياسية، وتحسم رأيها في قضايا لا تقبل التقية السياسية والجدل البيزنطي كمفهوم الدولة والتعددية وقبول الآخر وملف المرأة وحقوق الإنسان، والفصل التام بين عباءة الديني وجلباب الداعية في الممارسة السياسية.

وإذا كان الشيخ راشد الغنوشي قد ذكر مرات عدّة على سبيل التفاخر أن فكره وأطروحاته تم اعتمادها من قبل حزب العدالة والتنمية في تركيا، وأنها ساهمت في فكر أردوغان ورفاقه؛ فمن المهم جدا أن يكون أكثر تواضعا في الاستفادة منهم في ممارسة تلك «النظريات» على أرض الواقع، بعيدا عن حملات التطهير ذات المنطق الستاليني.