طرابلس: المدينة الرهينة

TT

يمكن للبنان برمته أن يشتعل من طرابلس. يمكن للعاصمة اللبنانية الثانية أن تمتد شرارة جنونها، في غفلة من الجميع، لتصل إلى أقصى الشمال وآخر نقطة في الجنوب. الوطن الصغير في تركيبته التعددية وضغائنه البدائية، تتشابه فيه المناطق، بغيها وجنوحها، حد الانتحار الجماعي. الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه السياسيون منذ أيام، حول هدنة عسكرية تسمح بإيجاد حل ما لقضية طرابلس، هي مسألة تعني لبنان برمته. النجاح صعب للغاية، لكنه لا يزال ممكنا لو اجتمعت له الإرادات الواعية. فالفشل نتائجه وخيمة ومريرة على الجميع. هذا ما يفسر ربما أن يتفق حلفاء نجيب ميقاتي وسعد الحريري وإسلاميون متطرفون مع فعاليات باب التبانة، ونسمعهم يتحدثون، للمرة الأولى، لغة واحدة. لا بد أيضا أن ثمة إشارة دولية وعربية ما، دفعتهم لبلورة تفاهم ولو مؤقت. ثمة ما هو أهم، فإسلاميون من «8 و14 آذار» يبدو أنهم تواطأوا وتداولوا هذه المرة لتجنيب المدينة المزيد من المرارة.

الحل صعب ومعقد، فالأحقاد بين المنطقتين الطرابلسيتين يعود تاريخها إلى منتصف الثمانينات حين ارتكب الجيش السوري مجزرة في باب التبانة، بينما اصطف أهالي جبل محسن العلويون في غالبيتهم مع النظام السوري. الحالة الثأرية التي أشعلتها مجزرة القرن الماضي لم تنطفئ بعد. داحس وغبراء لبنان لا تزال تأكل أولادها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولم تشبع من التهام جثث الضحايا. العقل العربي ماضوي بما لا يسمح بالنظر إلى الأمام. غاية ما ينتظره مقاتلو باب التبانة اليوم هو سقوط النظام السوري للانتقام من إخوتهم الأعداء. والبعض لا يتوانى عن القول إنه يريد أن يشرب من دمائهم. مع كل تغير إقليمي يجد أهالي المنطقتين ما يدعو لتجدد تناحرهم. والخوف أن يترافق انهيار النظام السوري، وتغير الخرائط مع شراسة متفاقمة، في تصفية أحد الطرفين للآخر.

ما حدث في الجولة الأخيرة من المعارك التي اندلعت ثاني أيام العيد واستمرت لأسبوع كامل، كان مخيفا. خرج القتال عن نطاقه الجغرافي الاعتيادي، لتصبح شوارع طرابلس، مدينة النصف مليون نسمة، مستباحة لمسلحين لا أحد يعرف هوياتهم أو مآربهم. جال مسلحون برشاشاتهم وقنابلهم، أطلقوا النار في الهواء للتسلي وترويع الآمنين. شعر الأهالي بأنهم متروكون لعصابات أفلتت من عقالها، لا الجيش يردعها ولا الدولة تقوى على ثنيها، اختبأ السكان كما الفئران في أوكارها. وصل الرصاص الطائش إلى كل الأحياء، اخترق النوافذ وغطى على شرفات شوارع بعيدة عن مناطق الاقتتال. أحرقت محال ومنازل، يبدو أن المخربين يجهلون حتى هوية سكانها.

ما حدث في طرابلس أنذر بشر مستطير. التفاهم على هدنة، وتغطية الجيش سياسيا، كي يرد على مطلقي النيران، ويردع كل مخل بالأمن، ويداهم مخازن سلاح، تبين أنها ممتلئة عن بكرة أبيها، كان الحد الأدنى لتفادي فلتان شامل ومدمر.

كل شيء في لبنان يتم بالتراضي، قتل الناس، سجنهم، إفلاتهم من العقاب كما تأمين ضرورياتهم، أو حتى التآمر عليهم.

يخبرك أهالي باب التبانة بأن كل محور قتالي له مقاتلون يتبعون قائدا ما له هواه وحساباته. والمشكلة أن هذا القائد قد يعطي أمرا بوقف النار، بينما لا يعطي آخر الأمر نفسه. شعر السياسيون هذه المرة بأن المسلحين أفلتوا من بين أيديهم، وأن المقاتلين باتت لهم مرجعيات أخرى، ويستحسن لجمهم. من اللافت أن اللقاءات لوقف القتال كانت تضم رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ووزراء المدينة وفاعليات باب التبانة. وكلمة «فاعليات» هنا تعني المقاتلين أنفسهم أو من ينوب عنهم، وهذا له دلالاته التي لا تخفى.

تأخر السياسيون ليحسموا أمرهم كما المعتاد، مما كلف 17 قتيلا وأكثر من 100 جريح، في الجولة الأخيرة التي كان بمقدورهم تفاديها لو أنهم أذعنوا للعقل بدلا من حسابات ضيقة وغبية.

طرابلس اليوم في هدنة. المعارك الأخيرة أشعلتها مفرقعات نارية كان يلهو بها الأطفال بمناسبة العيد. هذا يدلك على هشاشة الوضع وحساسيته. الحكومة مسؤولة أمام الناس، وكذلك نواب المدينة وممثلوها. المسلحون موجودون، والذخيرة وفيرة ومؤمنة، وهم على استعداد للانتفاض من جديد كلما سمح لهم الظرف بذلك. بينهم منتفعون ومرتزقة، وعاطلون عن العمل، وثأريون، ومنهم أيضا المندفعون وراء شعارات وأفكار طائفية حمقاء. حماية الآمنين من المجانين والمهووسين ومهربي السلاح لا تكون بالتحرك بعد اندلاع القتال، بل قبله. رجال المخابرات في لبنان يعلمون تفاصيل كل ما يحدث، ويعرفون بالأسماء كل من يتحرك ويتسلح ولصالح من يطلق النار. كل ما تحتاجه طرابلس هو صدق نيات سياسييها، على مختلف مشاربهم.

ربما أن سياسيي المدينة لم يصدقوا قبلا، أن النار ستحرقهم كما أحرقت كثيرين قبلهم. ربما أنهم لم يكونوا قادرين لضعفهم وهزالهم على دعم الجيش والقوى الأمنية وتوحيدها حول فكرة واحدة وهي حماية المواطنين بدلا من حماية فئة منهم. الخريطة السياسة في لبنان وتشعباتها العربية والدولية من التحول والتبدل، بحيث يصعب فهم كل خلفياتها وخفاياها.

ينبئ الاتفاق الأخير حول الهدنة في مدينة طرابلس، بفسحة أمل، وبصيص ضوء صغير جدا في آخر النفق، وعلى كل صاحب ضمير أن يعمل لينقذ أرواحا جديدة مهددة باللحاق بركب أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في زمن، القابضون فيه على خيوط اللعبة، أحمق من هبنقة، وما أدراك ما هبنقة؟!