«الدنيا» تغطي لنا الآخرة

TT

قبل مقتلها بساعات كتبت الصحافية الأميركية ماري كولفين، الكلمات التالية، «شاهدت طفلا يموت اليوم. أصيب بشظية ولم يستطع الأطباء فعل شيء. ظلت بطنه الصغيرة تعلو وتهبط إلى أن توقفت. أشعر أن لا حول لي ولا قوة كما أشعر بالبرد.. سأظل أحاول إيصال معلومات».

حين ظهرت كولفين عبر قنوات إخبارية تنقل ما شاهدته عن هذا الطفل هزّت كل من استمع إليها.. مأساة هذا الطفل ومآسي السوريين التي شهدتها هذه الصحافية الشجاعة، دفعتها لأن تبقى إلى أن قتلت بعد أن قصفت مدفعية النظام السوري المكان الذي كانت تحتمي فيه في حمص قبل أشهر لتخبرنا عن عسف هذا النظام ومجازره. كانت ماري كولفين تتحدث بجدية وبصدق وبملامح يشوبها التعب والإعياء وهي التي فقدت إحدى عينيها حين كانت تغطي اضطرابات في سيرلانكا.

تذكرتُ ماري كولفين بقوة حين شاهدت مراسلة قناة «الدنيا» في تقريرها الذي ربما بات الأشهر اليوم عن تغطيتها لمجزرة «داريا» السورية الأخيرة.

فالشابة ظهرت وقد تدلت ضفيرتها على كتفها، وقد ثبتت نظارتها الشمسية على رأسها وبدا جليا طلاء أظافرها الفاقع، أما برودها وصلافة تعاملها مع المشهد المفجع الذي أحاط بها، فكان صادما إلى حد أن السوريين قد احتاروا، أيهما مفجع أكثر، المجزرة وهول مشاهدها، أم تغطية مراسلة قناة «الدنيا» لهذه المجزرة.

ففي التقرير نرى مراسلة القناة تدخل منطقة داريا بعد المجازر التي وقعت فيها وتجول بين جثث الضحايا وتقف أمامهم متحدثة إلى الكاميرا عن «المرتزقة» وعن «الحرية» التي ينادي بها هؤلاء بكل تماسك وبرود من دون التخلي ولو لثانية عن لغة النظام ونظريته بشأن العصابات المسلحة. كانت المشاهد حول المراسلة بمثابة صراخ أبكم لجثث دامية مشوهة ملقاة في السيارات وعلى الطرق وداخل البيوت. رجل تفجر رأسه وآخر وقع من على دراجته وامرأة تحتضن طفلها لتحميه فماتت معه. مشهد صارخ من هذا النوع لم يدفع المراسلة لاحترامه والصمت أمامه بل استغلته أبشع استغلال حين قررت المقاربة بينه وبين الطفل الفلسطيني محمد الدرة. ولعل ذروة الإسفاف كانت حين دلت المراسلة ميكروفونها على فم طفلة تتمدد في شاحنة قرب امرأة ميتة وتسألها: «هل هذه أمك؟».

لعل التقرير الذي ألقته قناة «الدنيا» في وجوهنا غير مسبوق في تاريخ الصحافة التلفزيونية وربما في تاريخ الصحافة بالمطلق. وهنا لا مفر من أن نتخيل مشاهد أخرى لا شك أن المونتاج قد أشاحها عن وجوهنا. فهل تلعثمت المراسلة أكثر من مرة لتردد عباراتها؟ وهل طلبت من المصور أن يغير من زاوية لقطته ليظهر مشاهد الجثث من دون أن يتأثر شعرها الأشقر ونظاراتها الشمسية؟. هل سوت المراسلة الحجر تحت رأس السيدة الجريحة لتتمكن بما بقي لديها من روح أن تتحدث لكاميرا «الدنيا» وتغذي سبق المراسلة. هل انتظرتها المراسلة لتموت كي تصور مشهد موتها وتضع عليه موسيقى تصويرية.

النظام السوري قتل أهالي داريا التي كانت شرارة الحراك السلمي في سوريا وقناة «الدنيا» أظهرت لباقي السوريين ما هي «الآخرة» التي تنتظر من بقي حيا منهم.

diana@ asharqalawsat.com