حملة ليبرمان

TT

يواصل وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، حملته السياسية والدعائية ضد الرئيس محمود عباس.

لم يكتف ليبرمان بما يفعل عادة، أي إطلاق التصريحات النارية وغالبا غير المنطقية، بل إنه طور حملته بمذكرة قدمها للجنة الرباعية، يدعوها فيها إلى تحديد موعد للانتخابات الفلسطينية من أجل الإطاحة بعباس.

وإمعانا في حملته ورغم ردود الفعل غير المؤيدة لموقفه في إسرائيل بشكل خاص، والولايات المتحدة كذلك، فقد أفصح عن أن إسرائيل سكتت على عباس ثلاث سنوات ونصف السنة، وآن الأوان لمواجهة هذا «الإرهابي».

ورغم الصورة النمطية المألوفة عنه كرجل يتصرف كأنه زعيم ميليشيا متطرفة وليس وزير خارجية، لكن أقوال ليبرمان التي حولها إلى سياسة رسمية، ينبغي أن ينظر إليها فلسطينيا ودوليا بقدر أكبر من الجدية.. فالرجل وإن لم يكن مؤيدا بالأقوال من قبل الثنائي باراك ونتنياهو.. إلا أنه مؤيد بالمضمون. وبوسعي الاستنتاج أن تعقيبات نتنياهو على أقوال ومواقف وزير خارجيته اتجهت إلى الاعتراض على الشكل، إذ لا يجوز أن يكون وزير خارجية إسرائيل صريحا إلى هذا الحد!

أما باراك، الذي انتقد تصريحات ليبرمان من ذات المنطلقات التي اعتمدها حليفه نتنياهو، فقد أدخل الجدل حول هذا الأمر إلى دائرة المفاضلة بين عباس وحماس، معتبرا الرئيس الفلسطيني أقل خطرا على إسرائيل من خصومه الداخليين، من دون أن يغفل عن تحميل عباس جزءا كبيرا من المسؤولية عن توقف العملية السياسية، داعيا إياه للعودة إلى مائدة المفاوضات من دون شروط مسبقة. ويبدو لي أن هذا هو الهدف المباشر من الحملة، فالرجل يذهب في مواقفه إلى الحد الأقصى، ونتنياهو وباراك يظهران نفسيهما كمعتدلين، في حين أن هدف الثلاثة واحد.. وهو المفاوضات، من دون وقف أو تجميد الاستيطان، كبرهان مفصلي على كونه رجل سلام بمقاييس رئيس الوزراء ووزير دفاعه، وليس إرهابيا بمقاييس وزير الخارجية، أي رئيس الدبلوماسية الإسرائيلية!

إن الأجواء التي أثارها ليبرمان برسالته لـ«الرباعية» ثم أقواله التالية التي أوضح فيها موقفه وفهمه للأمور، استدرجت تعقيبا أميركيا يؤكد استمرار التعامل مع عباس، من دون تنديد مباشر أو غير مباشر بموقف ليبرمان ورسالته.. فالأميركيون هذه الأيام يمشون على البيض، ويحاذرون ألا تخدش بيضة واحدة في موسم الانتخابات، حيث ممالأة ليبرمان تأتي بأصوات أكثر من الدفاع عن عباس.. ثم لماذا الدفاع ما دام رئيس الفلسطينيين ينتهج سياسة غير موافق عليها في واشنطن، بدءا من اشتراطه العودة إلى المفاوضات بعد تجميد الاستيطان، وانتهاء بذهابه إلى الأمم المتحدة حيث العقوبات الأميركية فوق الإسرائيلية تنتظره في الكونغرس؟!

وبقدر ما بدا ليبرمان فظا ومباشرا وشديد الاستفزاز والعدوانية، بقدر ما بدا التعاطي الفلسطيني الرسمي مع الأمر نمطيا ضعيفا وفي بعض الأحيان مذعورا.. فقد سمعنا توصيفا لموقف ليبرمان على أنه مجرد تدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية وكأن أي «أومباشي» في جيش الدفاع شديد الاحترام لهذه الشؤون!

وسمعنا توصيفا آخر بأن تصريحات ليبرمان تنم عن إفلاس سياسي، كما لو أن لدينا فائض رصيد جعله يغار من ثرائنا وقوة أوراقنا وشدة فاعليتنا في الضغط على إسرائيل!

وسمعنا توصيفا آخر بأن هذه التصريحات تمثل دعوة للقتل، كما لو أننا بصدد استعادة سيناريو المغفور له ياسر عرفات، وهذا نوع من الحرب النفسية التي نتطوع بها، وخصوصا أن التحذيرات والتصريحات يمكن أن تثير الهلع، إلا أنها لا تحمي بل ولا تكفي كرد وحيد على أمر كهذا.

إن ليبرمان صاحب التصريح الأشهر بأمنية أن يرى الفلسطينيين قد غرقوا في البحر الميت، ليس مجرد طائر يغرد خارج السرب، إنه يعرف ما يقول وما يريد مما يقول، فهو وإن كان وزير خارجية فظا وقليل المهنية، إلا أنه يظل المصدر الرئيسي لتزويد عربة نتنياهو في الحكم بالوقود، وهو المتطلع بقوة إلى أن يكون صاحب القرار في إسرائيل في يوم ما.

وإذا كان لا بد من وصف أكثر دقة، فهو الضمير المعلن للتطرف اليميني في إسرائيل، وهذا ما ميزه عن نظرائه ممن ينتحلون صفة الضمائر المستترة الذين تمتلئ طويتهم بذات نوازع ليبرمان بينما تنطق ألسنتهم بمعسول الكلام.

إن ليبرمان بدأ حملة وسيستمر فيها، وإذا كان الأمر في أبسط مدلولاته يجسد نوعا من جمع الأصوات وفي أبعدها يمثل معركة بحدود قصوى ضد عباس، فالرد الفلسطيني على هذه الحملة يبدو لي غير متناسب مع أهدافها، فما وراء الحملة يستوجب أكثر مما حصل حتى الآن، وأصحاب القرار عندنا يعرفون أكثر مني بما يجب ولا يجب في أمر كهذا.