اغمز للقمر.. تحية لأرمسترونغ

TT

«خطوة متواضعة للإنسان وقفزة عملاقة للإنسانية»، رنت في ذاكرتي عبارة نيل أرمسترونغ، عندما وضع أول قدم إنسانية على القمر منذ 43 عاما وشهر، لحظة أعلن راديو غرفة النوم فجر الأحد الماضي وفاة أشهر رواد الفضاء عن 82 عاما.

كان أرمسترونغ متواضعا رغم أن الشهرة مرجعها شجاعته وسرعة تصرفه قبل ريادته الفضائية عند وصول «أبوللو 11» للقمر. في 1969 كان الكومبيوتر وبرامجه (قبل اختراع التليفون الجوال بأكثر من عقد)، مقارنة بأجهزة كومبيوتر اليوم، مثل مقارنة محرك بخار جيمس واط بمحرك السيارة الكهربي البنزيني المشترك الذي اخترعته «تويوتا».

لاحظ أرمسترونغ خطورة مكان الهبوط الذي حدده كومبيوتر وكالة ناسا، فتولى القيادة يدويا موجها «أبوللو 11» للأمان، وكانت مغامرة تضحية شجاعة، استهلكت الوقود الاحتياطي للعودة للأرض في حال إخفاق إشعال المحرك من أول شرارة.

كان حكيما في تواضعه، رافضا العروض والضغوط من الجماعات السياسية التي أرادت استغلال شعبيته وشهرته لخوض الانتخابات في الكونغرس والبيت الأبيض. رفض الأضواء، واكتفى بالبحث العلمي ومحاضرات التدريس، باستثناء مشاركته في لجنة شكلها البيت الأبيض للتحقيق في انفجار مكوك الفضاء عام 1986، فقرر وضع خبرته في مجال السلامة وتحديد الأخطاء الهندسية لتجنب تكرر الكارثة.

مقابلات زملاء وتلاميذ أرمسترونغ تنسكب من راديو دائم البث بجانب السرير، بفضل الألم المزمن وتعدد أوقات تعاطي الأدوية. فليلة نوم عادية أصبحت، منذ سنوات، من ذكريات أيام الشباب. كلمات أرمسترونغ من الراديو أعادت عقلي «فلاش باك» لصيف 1969 أتابع خطواته على الشاشة الصغيرة (12 بوصة) أبيض وأسود في التلفزيون الخشبي بضخامة دولاب (خزانة) الملابس.

فلاش باك.. قبلها بأكثر من عقد في فصل أستاذ التاريخ الراحل المستر كامبل، في مدرستي بالإسكندرية يناقشنا عن تضحيات من أشعلوا شموع التنوير في بداية عصر النهضة وصراع غاليليو مع المؤسسة الدينية قبل أربعة قرون. اكتشاف تلسكوبه أن الشمس، وليس الأرض، هي مركز الكون عرضه لتهمة الكفر من رجال الدين لتجرؤه على استخدام العلم لتحدي غيبيات تمكنهم من السيطرة على عقول وحياة البشر. ها هو أرمسترونغ يحلق لنصرة غاليليو وسيادة العلم على غيبيات الكهنة.

ابتسمت متذكرا رائحة حبر المطابع البدائية على الورق السميك لمجلدات القرن الـ19 في مكتبة المدرسة كصبي في الثانية عشرة يعد تقريرا كلف المستر ايلينغهام، مدرس العلوم، التلاميذ به عن قانون الجاذبية للسير إسحق نيوتن (بعد غاليليو بسبعة عقود). وها هو الطيار الروسي يوري غاغارين يعتق البشرية من جاذبية الأرض بدورانه حولها قبل رحلة أرمسترونغ بثمانية أعوام.

وقبل عامين من خطوة أرمسترونغ القمرية كنت قد بدأت حياتي العملية بالصراع مع الكلمات وماكينات التلكس والعسكر والجماعات المسلحة وتضليل المسؤولين، وأسوأ منها مجتمعة لدغات الناموس (بداية عملي الصحافي كانت في أفريقيا قبل الانتقال لأحداث الشرق الأوسط مع حرب 1973) والحرب الأهلية في نيجيريا دخلت عامها الثاني ومنطقة بيافرا الشمالية الأكثر اشتعالا ودموية. سبع سنوات بعد استقلال أكبر أمم أفريقيا (60 مليونا وقتها يتنازعهم 300 عرق ودين وقومية لم يقدر راسمو خريطة نيجيريا تناقضاتها) ومراسلو أفريقيا غارقون في فيضانات الانقلابات والمجاعات والحروب.

إنجاز «أبوللو 11» ألصق أعيننا بشاشات التلفزيونات الأبيض والأسود، لا تفارقها إلا لمتابعة ما تبصقه آلات التيكرز «تك.. تك.. تك».

الأسر الفقيرة أيقظت الأطفال لمشاهدة تلفزيون الجيران الموسرين. نزلاء الفنادق تجمعوا حول تلفزيون البهو، فنادرا ما وجد تلفزيون في الغرف وقتها. لحظة لا تتكرر إلا كل بضعة أجيال كطبع غوتنبرغ لأول كتاب أو إنارة إديسون لأول مصباح.

ذكرى تفوق آلام الجسم فلاش باك مقارنتي عام 1969 خطوة أرمسترونغ بتراجع أفريقيا عقدين بعد هبوب رياح الاستقلال وسقوط أمطار معونات اقتصادية روت بذور بنية تحتية وصناعات تركها «المستعمر» مربحة لتصبح آبار خسارة مالية في يد حكومات الاستقلال، وانكمش الاقتصاد والتجارة باستثناء استيراد السلاح، وتقلصت الصناعات، باستثناء صناعة توجيه اللوم «للاستعمار» الذي ترسو سفن معوناته في موانئ القارة ويتعلم أبناؤها بمنح دافع ضرائبه الذي يمول المستشفيات والمدارس وبعثات التطعيم ضد الأمراض.

كانت خطوة أرمسترونغ تأكيدا لسيادة الإنسان، بفضل العلم، على الكون، وإشارة إلى أن غريزة البشرية للبقاء تتجه بها للإفلات من جاذبية نيوتن بحثا عن كواكب أخرى مع تزايد احتمالات أن تؤدي حماقة الإنسان إلى تدمير كوكب الأرض.

كان عقد الستينات بدأ بحملة شعبية لنزع السلاح النووي ابتكرها، كالعادة، مثقفو بريطانيا ثم قلدهم الأميركان، وتبعتها موسيقى «البيتلز» وما شابهها من أجل السلام والحب لا الحرب (كمهرجان «وودستوك» للموسيقى)، وكان هبوط جيلنا على قمر الثقافة إفلاتا من سنوات بطاقات التموين وتقشف الحرب العالمية والتزمت المحافظ، إذ كنا، كتلاميذ، نعاقب بصرامة إذا كان الكرافت غير مربوط بعناية أو تحدثنا بصوت عال. وبدأ التمرد بإطالة الشعور وارتداء الجينز والغناء في مسيرات تطالب بإنهاء سباق التسلح.

تذكرت الزميل الراحل نيكولاس آشفورد، أشهر مراسلي أفريقيا، وتقريره بالتلكس من القاهرة عام 1969 «.... بينما يتظاهر الطلاب في كل مكان من أجل السلام ونزع السلاح النووي، يتظاهر طلاب مصر من أجل الحرب»!

انتهى أسبوع مرثيات أرمسترونغ بافتتاح دورة أولمبياد لندن للمعاقين، باستعراض (مصادفة إذ أعد قبل شهور) عن نشأة الكون وإنجازات العلم وقدرة الإنسان على الانعتاق من كل ما يعوقه ماديا ومعنويا.

بدأ الحفل بصوت كومبيوتر البروفسور ستيفن هوكينز (كتابه «تاريخ مختصر للزمن») أستاذ الرياضيات في كمبردج (منصب شغله نيوتن قبل 350 عاما) يحدثنا عن نشأة الكون. هوكينز أسير جسم شُلت كل عضلاته، انعتق من الإعاقة عن طريق كومبيوتر يترجم أفكاره وومضات عينيه إلى صوت إنساني.. وقعيد آخر يقود مجسم للتفاحة التي أدى سقوطها من الشجرة بعقل نيوتن إلى إنجاب قانون الجاذبية الذي يتحداه هذا الأسبوع المعاقون بأطراف مبتورة أو ناقصة ويحصدون الميداليات.. خطوة أرمسترونغية تنعكس من القمر على الاستاد.

حضرني شغل العرب والمسلمين عقولهم بمنع أزياء النساء ومصادرة كتب الرجال و«تحريم» أعمالهم الفنية وقولبة ما يجوز تدريسه للأطفال.

تطلعت للسماء تنفيذا لنصيحة الرئيس أوباما في تأبينه لأشهر رواد الفضاء «إذا لمحت القمر هذا المساء فاغمز له بعينك تذكرا لروح أرمسترونغ..».