لماذا على بشار أن يرحل!

TT

للعربي مائة سبب تجعله يطلب من بشار الأسد أن يرحل، وللسوري ألف سبب، أما كاتب هذه السطور فله سبب واحد يقنعه بأهمية رحيل بشار بجانب كل الأسباب الموجبة. قبل أن أشرح السبب أذكّر القارئ الكريم بالنكتة التي تداولها اليمنيون قبل سنوات - على قلة الأسباب التي تجعل اليمني يستملح النكتة - يقال إن علي صالح قبل سنوات خلت قرر أن يرشح ولده أحمد من بعده إلى سدة الرئاسة اليمنية، فلما فاتحه أحد رفاقه أن ذلك لا يجوز، قال: ولماذا جورج بوش الأب سلم الرئاسة في أكبر بلد في العالم، إلى ابنه جورج بوش الابن؟ فقيل له - استمرارا للطرفة - إن بين الأب والابن في أميركا شخصا اسمه بيل كلينتون! أتم علي صالح، وكان في مجلس للقات: يعني، هل تريدون محللا! سوف نأتي بمحلل قبل تسلم الابن أحمد سدة الرئاسة. إذا لم تكن الرسالة وصلت حتى الآن، فإن السبب الذي أريد لبشار أن يرحل من أجله، هو كونه الشخص الذي بدأ بدعة (التوريث في الجمهوريات) - هذا الداء الذي تبين للبعض تدريجيا سُميته في الحكم العربي وكاد ينتشر في عالمنا.

فقد قرر علي صالح - كما سبقت الإشارة - أن يبقى الابن أحمد بعد عمر طويل على العرش الجمهوري اليمني، كما قرر القذافي أن يبقى الابن سيف الإسلام على عرش الجمهورية الليبية (العظمى)، وقد تلفت بن علي حوله لفعل ذلك كما اتضح الآن، أما الابن عدي صدام حسين، فقد دخل في صراع مع أخيه الأصغر قصي على الوراثة، أما حسني مبارك فقد التهى بالفكرة العجيبة في توريث الابن جمال وأخذت معظم وقته في سنواته الأخيرة، وقيست المواطنة المصرية بمدى موافقتها على توريث جمال أو عدم توريثه! لا داعي أن أستطرد هنا كيف عاث الأبناء المرشحون فسادا في الأرض، فتاريخهم مسجل معروف!

لقد نكب العالم العربي بما حدث في دمشق في مطلع القرن الواحد والعشرين حتى كاد ينتشر إلى كل جسم الجمهوريات المعروفة، ونسي كثير في هذا الخضم المتشابك أن هناك (تناقضا في المفهوم) واضحا جليا بين (الجمهورية) و(التوريث). لست على يقين بأن المدرك لدى مؤسسي الجمهوريات العربية الأول هو توريث الحكم لأبنائهم، ولكن تاريخ رؤساء الجمهوريات التابعين، يقول لنا إن المدرك لديهم كان البقاء في الحكم حتى الممات، فلم يرتح أحدهم راغبا في التنحي للآخر من خلال انتخابات حرة ونزيهة. الكل - ولا أستطيع أن أستثني أحدا - إما أجبر على التنحي، في الغالب بسبب القتل بطريقة شنيعة، أو بسبب ثورة شعبية أهانت الرئيس وتركته معزولا في شبه سجن. كل من وعد بأنه سوف يكمل مدته القانونية ثم يمضي أخلف ذلك الوعد، ثم ظهرت بعد تجربة بشار في دمشق فكرة التوريث.

علي صالح مرة أخرى - قرر علنا أنه لن يرشح نفسه، ويا ليته فعل، لدخل التاريخ من باب غير الباب الذي دخله، ولكن بعد فترة (ضغطت عليه الجماهير على أن يقبل مشكورا العودة عن قراره). بالمناسبة قرار التنحي والعزوف، وقرار العودة، لم يكونا إلا محط تندر للعارفين، وقد تردد ذلك التندر في كتابات عربية، سُجّل أصحابها في السجلات السود للدولة اليمنية، على قاعدة المساس بالرئيس هو مساس بالدولة! حكم بورقيبة نحو ثلث قرن الجمهورية التونسية، بدا من منتصفها لم يكن هو يحكم، كانت إما زوجته أو بنت أخته - وسيلة بن عمار وسعيدة ساسي، اللتان تحكما في الرجل العجوز، فعجزت الدولة التونسية كلها ووقعت في مؤامرات القصر، وذلك مرصود بالتفاصيل في تاريخ تونس الحديثة. فاجأ الموت أو القتل رؤساء الجمهوريات العربية في الأغلب الأعم، كما تغيرت الدساتير أكثر من مرة، فقط من أجل التمديد للرئيس. وتكونت بعد ذلك ظاهرة سياسية لها خصوصية عربية، هي أن الجمهور في انتظار موت الرئيس أو قتله، فلربما حصل بعض التغيير في السياسات إلى الأفضل، كما استقر في ذهن الجمهور ضرورة أن يبقى الرئيس مدى الحياة، على الرغم من أن أول مبادئ الجمهورية كما عرفها العالم، هو أن تكون هناك انتخابات حرة ينتظرها الرئيس (وحزبه)، متى ما استقر ذلك الانتظار غير معروف النتائج، تحسنت الإدارة السياسية.

بوصول السيد بشار الأسد إلى سدة الرئاسة، تغيرت أصول اللعبة بشكل فج؛ تغيير في مواد الدستور التي تسمح لشاب صغير في السن بحكم بلد له تاريخ طويل في السياسة، فوق ذاك إدخال متغير آخر جديد هو ما سماه أستاذ الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم (الجملوكية)! وربما لم يفاجأ العالم، لا العربي ولا العالم ككل، بهذا الاستقبال من النخبة السياسية السورية التي تم تدجينها إلى العظم لقبول الوراثة، كما لم يعجب كثيرون بأن السيد حسني مبارك لم يجد في الثمانين مليون مصري و(يقال تسعون مليونا) من به سمات تؤهله نائبا للرئيس. فانتقلت الجمهوريات العربية من عصر استمرار الشخص، إلى عصر استمرار العائلة، ولأنها عائلة لم تمارس السلطة إلا من خلال القهر والهيمنة، كانت المفاهيم التي أطلقت على الشعب مناسبة لهذه التربية السياسية، قال الأسد إنهم جراثيم، وقال القذافي قبله إنهم جرذان! لقد اجتمعت الوحشية مع الدونية. وأصبحت الدولة الجمهورية العربية تحكم بإيجابية الشك لا يقين إقامة الدولة الحديثة.

لقد صفى صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وغيرهم عشرات الآلاف من المواطنين بسبب الشك والتقارير. فليس من المستغرب أن يقوم بشار الأسد بهذا القتل المبرمج، لو كان هناك سباق أولمبي في القتل، لحاز السيد بشار الميدالية الذهبية دون منازع. ويذهب بشار إلى إعادة جديدة للنازية في أبشع صورها عندما يقول إن المنشقين - أيضا المقبوض عليهم والقتلى - هم عبارة عن (عمليات تنظيف ذاتية)! وهل هناك أبشع من تلك التعبيرات لمؤسس ما كاد يسمى في تاريخنا التوريث الجمهوري! إذن، بذهاب الأسد ينقطع عصر استمرار التوريث، فرحيله ليس لإصلاح ماض عربي كئيب، ولكن الأهم لبناء عصر جمهوري عربي عادي مثل خلق الناس، تنتفي فيه كلمات التمديد والتوريث والتأليه، ويعلو فيه تبادل السلطة وإنسانية الحاكم، فإن لم يتم ذلك، فكل التضحيات قد تكون ذهبت عبثا.

آخر الكلام:

الخلافات بين بعض فئات المعارضة السورية لا أفهمها، لا أفهم أن يقال إنها طبيعية أو بسبب انقطاع أربعين عاما من عدم الممارسة السياسية، كل ذلك غير مقنع. أخشى من أن يكون النظام قد خلق معارضة في بعض أوجهها على شاكلته.