ليبيا المختلفة: هل تصنع الفرق؟

TT

هل شكلت ليبيا في زمن الثورات والاحتجاجات والانتفاضات العربية سياقا مختلفا ومغايرا عما سبقها وعما تلاها من أحداث؟ ربما كانت الإجابة بنعم سهلة، ذلك أنه تبين عن مسارات مختلفة في تاريخها الخاص وحاكمها البائد، غير أنها تظهر كذلك حجم التأثيرات الدولية والإقليمية في صياغة مستقبل المنطقة.

من قبل كانت تونس ومصر، ومن بعد كانت اليمن وسوريا، وقد اختلفت ليبيا عن ذلك كله، فهي لم تكن مثل تونس ومصر، فقد دافع نظام القذافي بقواته وكتائبه عن وجوده، ولم يرضَ بأنصاف الحلول كما اليمن بعده، وليست كسوريا أيضا فقد اتفقت على التدخل العسكري فيها القوى الدولية في مجلس الأمن ونفذته قوات حلف الأطلسي التي أنجحت الثورة هناك، والتي لم تزل حتى الساعة «متلكئة» في الشأن السوري نظرا لتعدد المصالح وتشتتها وافتراقها دوليا وإقليميا.

تتمتع ليبيا بموقع استراتيجي عالميا، فهي دولة غنية، ونفطها ذو نوعية جيدة، ثم إنها بعيدة عن المضايق البحرية التي قد تؤثر فيها النزاعات السياسية، مع تعداد سكاني مناسب للقدرة على بناء تنمية حقيقية ومؤثرة مستقبلا حين تحظى بقيادة واعية تدرك الماضي وتستوعب الحاضر وتتطلع للمستقبل.

من بين دول الاحتجاجات العربية التي سيطرت عليها جماعة الإخوان المسلمين ظهرت ليبيا لتمنح نموذجا مختلفا، فلم ينتصر فيها الإخوان، ولم تنحز للطروحات المناقضة، ولكنها اختارت طريقها عبر انتخاب «تحالف القوى الوطنية» الذي يقوده رئيس المجلس التنفيذي السابق محمود جبريل، الذي صنع على عينه بناء خليط سياسي سعى جهده لجمع كافة أطياف الشعب الليبي تحت راية واحدة، فيها مثقفون ومدنيون وشيء من التيارات الإسلامية وشيء من قبائل ليبيا الفاعلة والمؤثرة، وأشياء من بقية المكونات الرئيسة للشعب الليبي.

من المؤكد أن تياره لم يفز لأنه يمثل تيارا مدنيا معينا كالتيار الليبرالي مثلا، ولكنه ظفر بالفوز لما تقدم، ولأنه رفع شعار التنمية وإعادة الاستقرار والبناء وفرض هيبة الدولة من جديد، وهو ما يعبر عن طموح سياسي مشروع بعيدا عن الآيديولجيات المغلقة، التي شرق بعض أتباعها بالنتائج في الداخل الليبي ثم لم يجدوا بدا من العودة للاعتراف بها لاحقا.

غير أن هذا الاختلاف لا يعني بحال أن ليبيا ستتخلص بين عشية وضحاها من كل إرث الماضي السياسي، ولا أثر السياق الحضاري العام بكل مخلفاته المعيقة، ولا نفوذ جماعات الإسلام السياسي المحترفة ولا أبنائها من جماعات العنف الديني، ولكنها قد تمثل بارقة أمل صغيرة ومهمة يجدر رصدها وقراءتها.

ستعاني ليبيا من مشاكل مختلفة، فلئن سهلت مواردها وعدد سكانها على المؤتمر الوطني والحكومة التي ستنبثق عنه مهامها، فإن ظاهرة انتشار السلاح وتفشيه بين مجموعات دينية مسلحة ومتشددة سيكون عبئا ثقيلا، ولن يكون من اليسير حله، فهذه المجموعات لها قيادات طامحة سياسيا وشديدة التعبئة آيديولوجياً.

كذلك فإن ليبيا لن تعاني من هؤلاء داخليا فحسب، بل حدود ليبيا تبدو مفتوحة في لحظة حرجة وغير مستقرة من تاريخها على اتصال آيديولوجي مسلح تنشط فيه بعض خلايا «القاعدة» وأشباهها، يمتد من المغرب ومالي وجنوب الجزائر عبر الصحراء ليتصل بليبيا وصولا للسودان، ولكم انتشى النظام السوداني بإمداده بعض تلك الجماعات بالسلاح إبان الحرب الكبرى لإسقاط النظام السابق.

ولم تزل الأنباء تأتي من ليبيا مشيرة إلى أن ثمة هدما للأضرحة الصوفية والمشاهد الدينية التي يرافقها كم ضخم من الدعم المسلح والسياسي وأحيانا الاجتماعي، مما أدى مؤخرا لإعلان وزير الداخلية لاستقالته الجازمة ثم عودته عنها تحت ضغوط أخرى.

وتختلف ليبيا كذلك بتمتعها بوحدة صف مهمة وبالغة التأثير، فليبيا دولة مسلمة في الإطار الديني، وسنية مالكية في الإطار الطائفي والمذهبي، وعربية في الإطار القومي، رغم وجود أقليات إثنية بربرية يجب ألا يتعسر استيعابها وحمايتها.

لا يمكن استباق الأحداث ولا ادعاء قراءة المستقبل واستشرافه بدقة متناهية، ولكن يكفي المراقب والمتابع أن يحاول لملمة هذه الصورة أو تلك، يجمع فيها بين المعلومة والتحليل، بين الرؤية والموقف حتى يستطيع أن يخرج بحصيلة تروي نهمه المعرفي والبحثي، وتمنح شيئا من تسليط الضوء على زاوية جديدة من المشهد أو نتيجة قد تحدث تغييرا في سير الأحداث وتغطيتها وقراءتها.

سيكون من الصعب على قادة ليبيا الجديدة أن يوقفوا المجموعات «المؤدلجة» المسلحة عند حدها عبر المفاوضات وبالتي هي أحسن، لأن القدرة على ذلك قد تنفع مع بعض قيادات تلك المجموعات، ولكن قوة الآيديولوجيا لدى هذه المجموعات تجعلها قابلة دائما للتشظي عند أي تنازلات مصلحية تمس بنية الآيديولوجيا باعتبار ذلك «تدنيسا» لها.

يبدو أن ما أفرزته نتائج الانتخابات الليبية قد صدم جماعات الإخوان في جارتيها الشرقية والغربية، فأحسب أن الجماعتين كانتا قد بنتا شيئا من رؤيتهما على انتصار أتباعهما في ليبيا، وبالتالي ضمان بناء تحالف أصولي وتحويل ليبيا إلى بقرة حلوب للمشاريع الإخوانية في البلدين، وهو - وإن لم يحصل في هذه الانتخابات فلا يعني أنّ الجماعتين ستقفان مكتوفتي الأيدي بل ستعملان جهدهما على تحصيل الفوائد وإن بحدّها الأدنى في هذه المرحلة والتحضير للاستحقاقات المقبلة.

ستختلف ليبيا أيضا عن غيرها من دول الاحتجاجات بكونها دولة ذات ثقل اقتصادي مهم، مما سيسهل عليها كثيرا جلب الاستثمارات الكبرى للبلاد ليس في قطاع النفط فحسب، بل في قطاعات شتى ستكون السياحة على رأسها، كما أنها قد تستفيد من الاضطرابات السياسية والشعبية التي تعيشها الجارتان، ولكن كل ذلك مشروط بقدرة مؤتمرها الوطني الجديد والحكومة الجديدة على فرض هيبة الدولة والقانون وبسط الأمن والاستقرار في ربوع ليبيا، وهي مهمة عسيرة بالتأكيد ولكنها ليست مستحيلة بحال.

ومما تختلف فيه ليبيا غير ما تقدم هو أنها وعلى الرغم من انتشار دعوات الانتقام والقصاص والثأر من المرحلة الماضية التي عبرت عن نفسها بأكثر من طريقة، فإنها في الغالب تبدو متيقظة لأهمية الاتجاه للمستقبل وأولوية إعادة البناء والتطلع للأمام أكثر مما تبديه من شغف للغرق في أوحال الماضي.

أخيرا، فإن بإمكان ليبيا أن تصنع فارقا لكثير من المعطيات والاعتبارات، وذلك كله محكوم بالرهان على بناء وعي جديد وصناعة تنمية حقيقية، والنظر للأفق القادم وتجاوز الإحن الغابرة والآيديولوجيات العابرة للحدود.