مسرحيات مجلس الأمن!

TT

على خشبة مسرح مجلس الأمن في نيويورك تتحفنا وسائل الإعلام بين الحين والآخر بنقل مسرحية جديدة من تلك التي هي مليئة بالهزل والسخرية. هذه المسرحيات تنقل في كثير من الأحيان على الفضائيات بشكل مباشر لأهمية القرارات التي يتخذها هذا المجلس. أبطال هذه المسرحيات هم نوعان؛ منهم الخمسة الذين يمثلون الدول الدائمة العضوية في هذا المجلس، ومنهم الذين يمثلون الأعضاء المكملة له وعددهم عشرة أعضاء، وهؤلاء يتم انتخابهم لمدة سنتين من قبل الجمعية العامة، وهم متغيرون ومن الدرجة الثانية وليس لديهم إمكانية استخدام حق النقض. المتابع لفصول هذه المسرحيات لا يحتاج إلى أن يرى منها الكثير حتى يصل إلى النتيجة النهائية بأن «الطبخة» كانت جاهزة قبل الجلسة والقرارات مأخوذة سلفا وما يحدث أثناء الجلسات هو فقط الدور المسرحي الذي على أعضاء المجلس أن يقوموا به لإضفاء طابع الجدية والمسؤولية التي يتحملونها. وكذلك يصل المشاهد إلى حقيقة أن مندوبي القوى العظمى في هذا المجلس قد وزعوا الأدوار في ما بينهم واتفقوا على مبدأ «عندما أشد أنا، فأنت ترخي، والعكس صحيح».

في الفصول الأخيرة لهذه المسرحية والتي تم فيها تداول الأزمة السورية، شاهد الجميع السعادة العارمة التي انتابت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، سوزان رايس، بـ«الفيتو» المزدوج الروسي - الصيني وكان تصرفها يوحي بأنه لو لم تستخدم روسيا والصين حق النقض في هذه الجلسة لاستخدمته هي بنفسها. هذا التصرف من قبل المندوبة الأميركية مؤشر واضح على أن أميركا كان لها رغبة كبيرة في إبطال قرارات مجلس الأمن بخصوص الوضع الخطير في سوريا لكي تظهر بالوجه الحسن أمام الرأي العام العالمي، وكذلك لكي يستمر القتل والتدمير في سوريا لمدة أطول إلى أن يتم تدمير الجيش والدولة، وكذلك البنية التحتية لهذا البلد، وبعده تصبح سوريا دولة لا حول لها ولا قوة، ومن ثم تستطيع الدول المشاركة في هذه الأزمة التعامل معها كغنيمة حرب يتصرفون فيها كما يشاءون. اللافت للنظر في الجلسة السابقة أنه بعد التصويت مباشرة ذهبت المندوبة الأميركية سوزان رايس إلى المندوب الروسي، فيتال شوركين، وكادت «تأخذه بالأحضان» وملامح الفرح الكبيرة واضحة على وجهها بسبب ما قام به هذا المندوب من عمل أدخل السرور إلى قلبها، وكانت تتكلم معه وكأنها تتكلم مع صديق لم تره منذ زمن طويل! أثناء الجلسة كانت الوجوه عابسة والجدية واضحة في لعب الأدوار ولكن بعد الجلسة بدأت المجاملات الجانبية بشيء من التهاني على حسن الأداء في أدوار الفصل الأخير من هذه المسرحية.

لقد أعطي لمجلس الأمن اسما لا يتناسب والدور الذي يقوم به، لأنه لا علاقة له لا بالأمن ولا بالسلام العالميين، بل هو مجلس مؤامرات وظلم. الدول الدائمة العضوية في هذا المجلس لديها حقوق إضافية على أعضاء الدول الأخرى، وهي تستطيع بهذا أن تعطل كل قرارات المجلس متى ما تشاء وكيفما تشاء.. هي لديها حق النقض الذي اغتصبته هذه الدول لكي تتحكم بمصير وخيرات وثروات الشعوب الضعيفة. وكذلك قرارات هذا المجلس تطبق فقط على الدول والشعوب الضعيفة، أما القوية منها فتستهتر بها وإذا أرادت أن تعطيها شيئا من الأهمية فترميها في سلة المهملات، وأفضل مثال على ذلك هو طريقة تعامل الكيان الصهيوني بعشرات من قرارات هذا المجلس «الموقر».

تشكيلة وتركيبة هذا المجلس وطريقة عمله ونظامه تعتبر وصمة عار على جبين البشرية، لأنه مبني على عدم المساواة والظلم وعلى إذلال الشعوب المستضعفة. الدول الدائمة العضوية قامت بتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ ومصالح وأسواق لبضائعها، وكذلك اللوبيات تعشش فيه وتدافع عن مصالحها، وأهمها لوبي مصنعي السلاح.

من البديهي عندما تنتج شركة ما بضاعة معينة فهي تريد أن تسوّقها وبكميات كبيرة من أجل أن تحصل على أكبر قدر ممكن من الأرباح، وهذا ما تقوم به شركات تصنيع السلاح في العالم، وأفضل عامل ترويج لبضائعها هو إشعال الحروب في أكبر عدد ممكن من مناطق هذا العالم وزرع الفتنة بين شعوبه ودوله. وإذا كنا نظن أن هذه الشركات تصنع السلاح فقط من أجل أن تضعه في المتاحف الحربية أو من أجل الزينة فيكون تفكيرنا فيه شيء من السذاجة.

الأزمة السورية أصبحت لكثير من القوى العالمية والإقليمية ساحة للتجارب ولتصفية الحسابات بين بعضها البعض. مجلس الأمن أعطى للسلطة الحاكمة في سوريا فرصا كثيرة لكي تنهي هذه الثورة وبكل الوسائل مهما كانت عنيفة، وهو لا يرغب في الحسم السريع في هذه القضية. لقد جرب العالم محمد الدابي وبعده كوفي أنان والآن جاء دور الأخضر الإبراهيمي، وربما هنالك آخرون ينتظرون أدوارهم على خشبة مسرح مجلس الأمن من أجل أن تطول مدة الدمار، وبهذا تتمزق سوريا وتصبح ضعيفة وسهلة المنال لكل من تسوّل له نفسه في توسيع نفوذه على حساب أرضها وشعبها وسيادتها!

مندوبا روسيا والصين يساويان بين الضحية والجلاد في تقديم حججهما، أما مندوب السلطة الحاكمة في دمشق فهو يكرر الأكاذيب التي يبثها الإعلام السوري لتضليل الرأي العام العالمي والمحلي. ولكن ما أفشل كل المخططات التي تحاك ضد الثورة السورية وما جعل العصابة الحاكمة في دمشق تخرج عن طورها وترقى إلى أعلى درجات العنف والإجرام، هو تزايد عدد الثوار كل يوم، وعدم استطاعتهم إخماد الثورة على الرغم من أنهم استخدموا أعنف وسائل القمع ضدها. الطائرات الحربية تلقي القنابل الفراغية وتدمر الأبنية والأحياء بالكامل، وهي كذلك تقوم بقصف المخابز والمشافي والمساجد ولا تفرق بين عدو وصديق وتدمر أعرق مدن التاريخ وكأن هذه المدينة هي عاصمة لعدو يراد إبادته! ما يحصل في سوريا الآن أكده بشار الأسد بتصريحه الأخير عندما قال: لن نسمح بنجاح مخططاتهم مهما كان الثمن. هذا يعني أنه مستعد للمضي في سياسته الإجرامية هذه حتى لو أن ذلك كلف تدمير سوريا بالكامل من أجل أن يبقى هو رئيسا لها. ما نراه ونسمعه عن المدن السورية أصبح يذكرنا بسراييفو وغروزني، حتى أن وضع بعضها أصبح أسوأ حالا.. سكانها أصبحوا مشردين، جائعين، يعيشون في العراء وعلى ضفاف الأنهار ولا حول لهم ولا قوت ولا قوة!

في النتيجة لا يهم الثوار ما يقوله أوباما أو ما يقوله بوتين أو بشار الأسد، وإن كان ذلك قبل أو بعد الانتخابات، ولا يغريهم لا وعود «الأصدقاء» ولا «الناتو» ولا الوعود بالدعم المادي والتقني، وهم كذلك لا ينتظرون من أحد أجرا أو حمدا أو شكرا على ما يقومون به من تضحيات وهدفهم يعرفه القاصي والداني، وهو إما إسقاط الطاغية وزبانيته وإما الشهادة.. هذا هو سر صمود ونجاح الثورة السورية إلى يومنا هذا.

قريبا ستكسر الثورة السورية الباسلة كل القيود والأغلال، وستقول لكل القوى المتآمرة على مستقبل ومصير الشعب السوري: ننصحكم بأن تنقعوا قرارات مجلس الأمن وخطط مؤامراتكم وتشربوا ماءها، وعليكم أن تنقعوها لمدة أطول عساها أن تساعدكم في حل أزمات مستعصية في مناطق أخرى من العالم وتجعلكم تفهمون أن إرادة الشعوب الحرة لا تقهر.

* نائب ألماني سابق من أصل سوري