بعد حرق الزرع.. لا مكان ولا مكانة للجيرة

TT

ولكن المصطلح الشعبي أكثر بلاغة ودقة وتحديدا في هذا الشأن «ما فيش بعد حرق الزرع جيرة» لا تستطيع أن تشعل النيران في محصول جارك، ثم تذهب للتفاهم معه طالبا الصلح مستندا إلى عنصر الجيرة، لقد احترقت الجيرة هي أيضا مع المحصول ولم يعد لها وجود. بعد أن تهجم بليل على جنودي، جنود الدولة المصرية في موقع على الأرض المصرية، وتقتلهم جميعا، فلا يوجد على الأرض ما يجعلني أوافق على التفاوض أو التباحث أو التفاهم أو الحديث معك بهذا الشأن، فلم نعد جيرانا بعد أن أشعلت فيهم النار. لقد اخترت أنت بذلك أن تكون الحرب هي قدري وقدرك، اخترت العدم مصيرا لي أو لك، لقد وضعت وجودي في مواجهة وجودك وقررت أنه على أحدنا أن يبقى على قيد الحياة وأن يفنى الآخر، هذا هو بالضبط ما اخترته وقررته وفعلته أنت عندما أطلقت النار على أبناء مصر فقتلتهم جميعا.

انتهي كلامي معهم، ويبدأ كلامي مع هؤلاء الذين ذهبوا إلى سيناء، أو مع من أرسلهم، بعد أن حرص حتى الآن على أن يكون مجهولا.

وجه دعواتك إلى كل من تعرفه من هذه الجماعات الجهادية في سيناء، اجلس معهم في خيمة كبيرة أو في مسجد، سيرحبون بك جميعا وهو ما يحتم أن ترحب بهم أنت أيضا، وتشكر لهم تلبية دعوتك الكريمة، وبالتأكيد ستعلن لهم أنك تشعر باستياء شديد لما حدث للموقع المصري وللجنود المقتولين، عندها سيردون عليك على الفور: لسنا نحن من فعل ذلك.. كما أننا لا نعرف من فعل ذلك.. ووالله لو كنا نعرفهم لمزقناهم بأسناننا..

في هذه اللحظة ستبتلع ما قالوه، سترغم نفسك على تصديقه، لأنك إن لم تفعل، ستوقف الحوار بينك وبينهم على الفور فتفشل في مهمتك التي أرسلوك من أجل إنجاحها وهي التعايش السلمي مع هذه الجماعات الجهادية التي تقتل الجنود المصريين، ولعلك في هذه اللحظة تفكر فيما قرأته في جرائد الصباح («المصري اليوم» في 27 أغسطس/ آب 2012) والذي يقول بوضوح: «بعد التهديدات التي أطلقتها الجماعات الجهادية بنقل عملياتها الإرهابية إلى عدد من المحافظات المصرية إذا لم تتوقف العملية (نسر) التي ينفذها الجيش المصري في سيناء لتطهيرها من الجهاديين» لننس هذه التهديدات مؤقتا، فأنا أعرف أنك شجاع لا تخشي هذا النوع من التهديدات الإرهابية، وحتى بغير خلفية عسكرية أنت تعرف أن العدو عادة عندما يحاصر، فهو يلجأ على الفور إلى النزول خلف خطوط العدو والقيام فيها بعمليات تشيع الفزع في قلوب الناس غير أنه لا أهمية استراتيجية لها، بمعنى أنها لن تحسم الحرب لصالحه، دعنا من ذلك كله لنؤجل الحديث فيه ونتكلم عن عملية التفاوض. لقد أرسلوك لكي تتفاوض معهم، على أن تعطي لهم أرضا وتحصل منهم على أرض، أن تعطيهم نصيبهم الذي يحددونه وتحصل منهم على نصيبك الذي سيحددونه لك، وحتى قبل أن تبدأ الجلسة يكونون قد حصلوا على أكبر نصيب وهو «الاعتراف»؛ لقد اعترفت بهم الدولة كقوة بداخلها، قوة تدميرية قادرة على دفعك للتفاوض معهم. ولكنك لإرضاء ضميرك ستفتح معهم مواضيع هامة، ربما تسألهم: من الذي خطف ضباط الشرطة الثلاثة، وماذا حدث لهم؟

وسيكون الرد على الفور: لقد أحزننا كثيرا هذا الحادث وخاصة بعد أن شاهدنا زوجاتهم على شاشات التلفزيون وهن يحملن على صدورهن أطفالهن الرضّع ويناشدون كل أنواع المسؤولين أن يجيبوا على السؤال.. ماذا حدث لأزواجنا؟ لقد تألمنا كثيرا لهذا الحادث، بل إن بعضنا بكي بشدة.. ولكن الواقع والحقيقة أننا لا نعرف من خطفهم.. ولا ما حدث لهم.. ولكننا نؤكد لكم بحق هذا الشهر الفضيل وبحق من جمّعنا من غير ميعاد، أننا في اللحظة التي نعرف فيها ما حدث لهم سنقوم فورا بإبلاغكم... طبعا هناك عدة حوادث قتل أخرى لمسؤولين كبار في الشرطة، ولكن المؤسف والمحزن أننا لا نعرف من قتلهم. ولكن لماذا نتكلم عن الماضي، نحن هنا ليس لإثارة أحزان الماضي، بل للحديث عن مستقبل العلاقات بيننا، إننا بالطبع نشكر أعلى سلطة في مصر لأنها أرسلتكم للحوار معنا.. وبالتأكيد أنتم قد اكتشفتم أننا أناس طيبون لا نعمل من أجل دنيانا بل من أجل آخرتنا، لسنا مهتمين بهذه الحياة إلا بقدر ما تسمح لنا بالجهاد من أجل الآخرة، نحن ندعو إلى الله بالموعظة الحسنة، هذا هو بالضبط ما نطلب منكم أن تسمحوا لنا به.. ولذلك نحن نطلب منكم أن تتنبهوا لهؤلاء الأشرار الذين يهجمون علينا وعلى بيوتنا بحثا عن سلاح وعن إرهابيين لا وجود لهم عندنا.. هناك من يريد أن يوقع بيننا وبينكم يا سادة.. أليس من الواضح من هو المستفيد من العداء بيننا وبينكم؟

الآن عند هذا الحد من التفاوض لا شك أنك بدأت تتساءل: هؤلاء الناس لم يقتلوا جنودنا ولا يعرفون من قتلهم، علي أي شيء نتفاوض معهم؟ بالتأكيد هم لا يمثلون الجهة التي كلفت بالتفاوض معها، وعندما يصل الأمر إلى وثائق مكتوبة في هذا اللقاء فتوقيعاتهم عليها لن تساوي الحبر الذي كتبت به. لا أهمية للتعهد بفعل يعجز أصحابه عن الالتزام بتنفيذه. لا شك أنك في هذه اللحظة ستفكر في أنك أرسلت في مأمورية فيها من حسن النوايا أكثر مما فيها من فهم لطبيعة الأمور. وأن مجرد القيام بهذه المأمورية يوجه ضربة مجانية للعسكرية المصرية وعملياتها في سيناء، وكأن هناك من لا يريد للنسر أن يحلق عاليا.. وكأن هناك من لا يصدق أننا نخوض حربا، أو كأنه لا يريد لنا أن ننتصر في هذه الحرب.

لأيام طويلة في مصر كنا نقرأ الخبر ثم نقرأ تكذيبه بعد ساعات، وأهم هذه الأخبار كان ذلك الخبر الشهير عن إيقاف العمليات العسكرية بسبب العيد، تكرر هذا الخبر وتكذيبه عدة مرات، هكذا كنا نحارب الإرهاب في يوم ونهادنه في اليوم التالي، ولك أن تتصور تأثير ذلك على الناس وعلى جنودنا هناك. وبينما المفاوضات دائرة كان العدو يتسلى بالهجمات المتكررة على مواقعنا فيطلق عليها النار دون أن يصيب أحدا إلى درجة أنه هاجم موقعا واحدا (الريسة) 32 مرة، نعم اثنتان وثلاثون مرة. يظهر ويضرب ويهرب وكأن الهدف هو إيصال رسالة إلى المتفاوضين بأنه يستطيع في أي وقت الوصول إلى جنودنا.

خطر للغاية أن يكون لمصر رأسان، أحدهما يفكر في شيء والآخر يفكر في شيء آخر، لتتعدد الأفكار ولكن لتنتج فعلا واحدا في نهاية الأمر.