الإبراهيمي الحاضر.. والنصاح المغيبون

TT

لو أن الرئيس بشار الأسد استحضر يوم ولي الحكم وريثا لوالده الرئيس الراحل حافظ الأسد قول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) للجمع المبايع له: «إن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني» لكان تفادى هذه البلية التي انتهى إليها حكمه، ولما كانت وصلت الحال بسوريا إلى أنها باتت محظية ثلاث دول ذات أحلام إمبراطورية هي إيران الثورة الخمينية التي تتطلع إلى انبعاث الإمبراطورية الفارسية الماقتة لكل ما هو عربي، وروسيا بوتين التي لا تزول غصة قيصرها الجديد من حلقه ويتطلع إلى استعادة شأن الكرملين الحاضن لجمهوريات مغلوب على أمر شعوبها، والصين التي تزداد تضخما ويتطلع ورثة ماو تسي تونغ نحو الانتقال إلى مرتبة القيادة في المجتمع الدولي، وليس هنالك مهرة يمتطون صهوتها سوى المهرة السورية التي فاجأتهم أنها تريد الانطلاق من عتمة الإسطبل إلى الهواء الطلق. إنه تشبيه قد يبدو عليه شيء من التجريد، ولكن تطورات المحنة السورية وتداعياتها والمشاهد المفزعة على مدار الساعة منذ عشرين شهرا تجعل التشبيه ليس فعل تجريد، وإنما هو المأساة في أفجع حالاتها، إذ يكفي أن ينفذ العسكري البشاري ومن دون تردد، إلا في حالات صحوة، التعليمات بقصف مواقع ومن دون رحمة أو استفسار، وهو ما يحصل في زمن الحروب مع أعداء، لكن ليس مع أبناء الشعب الواحد، كما يكفي أن يهلل الطيف المنتفض على النظام ويكبر بأنه دمر دبابة لجيش البلاد، أو أسقط طائرة مروحية، أو فجر مستودعات ذخيرة وأسلحة. إنها ذروة المأساة تصيب نظاما لم يستحضر رئيسه الوارث عندما حظي بانتخاب له صفة الأمر الواقع قول الخليفة أبي بكر مخاطبا الجمع المبايع «إن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني» فكان أن بادر المنتفضون بعد سنوات وبالأسلوب الديري والإدلبي والدمشقي والحلبي وبقية ديار الانتفاضة إلى استحضار ما قاله الجمع المبايع للخليفة أبي بكر «والله لو وجدنا فيه اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا».

في الزمن الغابر كان ولي الأمر يخاف ربه ويهتدي بما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مجالسه مثل «عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة» و«أشد الناس عذابا يوم القيامة من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه». ونحن هنا نتحدث عن ولاة الأمر الصالحين المصلحين الذين يأخذون بمبدأ النصح على قاعدة «وأمرهم شورى بينهم». كذلك نتحدث عن زمن كان ولي الأمر يستنجد بأهل النصح والحكمة يرفدونه بالرأي السديد الذي يقيه المخاطر، وهؤلاء كانوا حتى عندما لا يستدعيهم ولي الأمر يبادرون من تلقاء أنفسهم إلى طرق باب ديوانه فيقول هؤلاء لهذا الممسك بالسلطة العليا ما من الضروري أن يقال له، وبذلك يتقي مصيرا عبر عنه الرسول بالقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا». ومن مصلحة هذا الممسك بالسلطة أن يصغي، فلا يبقى الحقد عليه أسير أسلوب معالجته وذلك عملا بقول المقنع الكندي أحد شعراء الزمن الغابر «... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا». كذلك من مصلحة الممسك بالسلطة أن يصغي أحسن الإصغاء إلى أهل النصح والحكمة، ذلك أن هؤلاء يأخذون فيما يفعلون بالآية الكريمة «وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ويستأنسون في أدائهم واجب النصح بقول الإمام علي (رضي الله عنه): من حذرك كمن بشرك.

انطلاقا مما أوردناه، نجد أنفسنا ونحن نتابع تطورات المحنة السورية وتداعياتها نتساءل: هل أفاد سوريا في شيء هؤلاء الذين يتعاملون مع سوريا الفاجعة والمفجوعين على أنها المحظية التي تحقق لهم نشوة التحول من الدولة المنتفخة العضلات إلى الدولة القادرة على الهيمنة على نحو ما هي عليه قدرات الولايات المتحدة؟ علما بأن الإخفاقات الأميركية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي وبالنجوم ا«الكومبارس» في أوروبا تشكل حيثية لكل دولة، وتحديدا هنا للدول السائرة على طريق التنمية مثل إيران وروسيا والصين للنأي عن خوض سياسة التلاعب بمصائر الآخرين، وبالذات سوريا التي جعلوها تنزف على لحن ثلاثي مشترك لخصه علاء الدين بروجردي يوم الأحد 26 أغسطس (آب) 2012 أمام الرئيس بشار في دمشق بالقول: «أمن إيران من أمن سوريا» قابله الرئيس بشار بما معناه أنه سيواصل الفعل الأمني مهما كلف الثمن، متكلا على وهم أن حدود روسيا تبدأ في طرطوس وأن ترسيم حدود الصين مع المنطقة العربية سيبدأ ذات يوم من قلب عاصمة الأمويين.

كما نجد أنفسنا نتساءل: هل من المعقول أنه ليس في أهل العقيدة البعثية المتمكنة من سوريا من يدعو إلى التصحيح ليس على نحو ما سبق أن فعله الأسد الأب؟ لأنه لو صحح كما هي أصول التصحيح واعتمد هو الآخر ما قاله أبو بكر: «إن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني» وأجابه سامعوه الذين بايعوه «والله لو وجدنا فيه اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا» لما كان للأسد الابن الوارث أن يمعن عنادا فتخبطا، ولكان هو بنفسه استنفر العقلاء في العقيدة البعثية فخرج هؤلاء عليه شاهرين النصيحة، ولكان سأل النصاح في مجتمع الطائفة استنباط الحلول الحكيمة للمأزق الذي وضع نفسه فيه غير متنبه للآية الكريمة «وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وإلى الحديث الشريف « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» المكمل للحديث القدسي «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».

ومثل هكذا دواء من حروف مضيئة كان كفيلا بتبديد الظلام السوري المستديم الحامل في ثناياه ظلما لا عهد للأمتين بقسوته. عسى ولعل في ضوء المسعى الذي أخذه الأخضر الإبراهيمي على عاتقه تحدث بعض الانفراجات فيأخذ الحل السياسي فرصته عوضا عن الحل الأمني الذي لا جدوى منه. ونجيز لقلمنا التسطير استنادا إلى ما نعرفه في الأخضر من مزايا بأن إمكانية تحقيق الانفراج ليست مستحيلة في حال انتقل الرئيس بشار من فضاء التحدي إلى فضاء الواقعية، وأدخل رموز مثلث التدعيم (إيران، روسيا، الصين) تعديلا جذريا في مسألة التطلعات الإمبراطورية والهيمنة. وبالأهمية نفسها هنالك المؤهلات المتوافرة في شخص الإبراهيمي وليست متوافرة في السلف الطيب النية كوفي أنان. فالأخضر الإبراهيمي يعربي ومتدين وابن الجزائر التي أبدى رئيسها عبد العزيز بوتفليقة من المراعاة لظروف النظام السوري ما جعل قرارات العزلة عربيا أو تعليق العضوية إسلاميا لا تؤخذ بالإجماع، فضلا عن أن أخلاقيات الأخضر الإبراهيمي وماضيه الدبلوماسي المنزه عن التلاعب تجيز له أن يصارح الرئيس بشار ويصارح بالمنطق نفسه رموز أطياف الانتفاضة، وأن يرفق المصارحة بالنصيحة. وأما في الموضوع الثوري ومتطلباته وظروفه فإن الإبراهيمي قادر على أن يقول للرئيس بشار وفي معرض النصح والتنبيه ما معناه: إن الجزائر دفعت من أجل استقلالها مليون شهيد على مدى عقود من المقاومة الباسلة للوجود الفرنسي، لكنكم في سوريا تقتلون دون وجه منطق أبناء شعبكم وتدمرون بالآلة الحربية بيوت الناس وهو ما لم يفعله نظام ضد حالة اعتراض، إذ حتى في إيران التي تحثكم على مواصلة العلاج الأمني الحربي لم تذهب في التصدي للانتفاضة الموسوية – الكروبية إلى ما وصلتم إليه، وفي استطاعة الإبراهيمي أن يضيف أن الحل السياسي لا يبدأ من دون عودة الجيش إلى ثكناته، والآليات والطائرات إلى قواعدها، والاعتذار من الشعب، واعتبار الضحايا شهداء، ومخاطبة المجتمع الدولي والأشقاء العرب بمفردات غير تلك التي اعتدت عليها يا أخ بشار فأضرت ونقلت سوريا من دائرة الالتفاف حولها إلى دائرة الالتفاف عليها.

وعلى هامش ضرورة المصارحة ووجوب النصح في استطاعة الأخضر الإبراهيمي أن يقول للرئيس بشار ما معناه: إن مهمته لن تكون أفضل من مهمة أنان إذا كنت مقتنعا يا أخ بشار فعلا بتوصيف الحليف الصديق الإيراني بروجردي للموقف وقوله: «إن سوريا وإيران كالفولاذ الصلب لن تستطيع القوى الخارجية مهما بلغت مؤامراتها النيل من دورهما المقاوم في المنطقة». وبتوصيف إحدى وسائلكم الإعلامية (صحيفة «الثورة» عدد الأحد 26-8-2012) لصديقكم السالف أردوغان بالقول: «لم يعد شر البلية يضحك ما دام كومبارس الإرهاب الأميركي والإسرائيلي أردوغانيا ويتنطح في ادعاءاته إلى حد تسيد القضية».

ومرة أخرى نجدد التساؤل، إنما بصيغة الاستهجان إزاء الهلع الحاصل وكيف أن قطاف الرؤوس يتم بالأسلوب الحجاجي، وتدمير البنيان بالأسلوب التتري: أليس في أهل العقيدة البعثية عقلاء وأليس في الطائفة العلوية نصاح أم أنهم كثيرون لكنهم مغيبون؟