اتجاهات جديدة في سياسة مصر الخارجية

TT

تعمل التكنولوجيا الحديثة والعولمة، بما لها من تأثير على الأمن الدولي والاقتصاد وتدفق الأفكار، على تغيير طبيعة العلاقات الدولية. وبالنسبة لمصر في الوقت الحالي، باتت دائرة العلاقات الدولية تشمل كلا من أوروبا والدول الأفريقية التي تقع جنوب الصحراء الكبرى وتركيا وإيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وعددا من الدول الناشئة والمهمة مثل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.

وتقف العلاقات المصرية الأوروبية على أرض صلبة نسبيا ولا تحتاج إلى تغيير جذري. ومع ذلك، يجب تعزيز التفاعل والتواصل بين الشعبين للتعامل مع حالة القلق وكراهية الأجانب الموجودة بشكل متنامٍ بين دول البحر الأبيض المتوسط، كما ينبغي أن تكون هناك أولوية لتحسين العلاقات الثقافية، إلى جانب الجهود المبذولة في مجال التعاون الاقتصادي مثل إنشاء منطقة تجارة حرة متوسطية.

وحتى تتمكن مصر من استعادة مكانتها في القارة السمراء، يتعين عليها التعبير عن نفسها في القضايا التي تهم القيادات والشعوب الأفريقية مثل مكافحة الفقر، ودعم التنمية الاقتصادية، وحماية البيئة، والجهود الأمنية الإقليمية مثل تنظيم الاتجار غير المشروع بالأسلحة الصغيرة، والإصلاح السياسي. وينبغي أيضا بذل جهود كبيرة ومتجددة لتوسيع اتفاقات التجارة الحرة الاقتصادية الثنائية ومتعددة الأطراف، وتعزيز التبادل الأكاديمي للشباب الأفريقي في الجامعات المصرية الناطقة بالإنجليزية والفرنسية. وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هناك تركيز سياسي خاص على العلاقات مع بعض الدول مثل السنغال وكوت ديفوار (ساحل العاج) وغانا ونيجيريا وجنوب أفريقيا، من خلال استراتيجية جديدة لنشاط دبلوماسي فعال، ولكنه غير مقصور على هذه الدول فقط.

وبالإضافة إلى ذلك، تتطلب علاقة مصر مع القوتين غير العربيتين في منطقة الشرق الأوسط إعادة توجيه، ولا تكمن القضية الآن في دخول مصر في علاقات مع إيران أم لا، حيث يدعم الشعب المصري هذه الخطوة على نطاق واسع، ولكنها تكمن في الدور الذي يتعين على مصر القيام به في المسرح الدبلوماسي المحيط بسعي إيران المزعوم لتصنيع أسلحة نووية وتطلعاتها لزيادة نفوذها في منطقة الخليج العربي.

وحتى تتمكن القاهرة وطهران من استعادة الثقة المفقودة، يتعين عليهما الدخول في حوار مفتوح وشامل لمعالجة القضايا الأمنية والسياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، كما يتعين عليهما استكشاف سبل التعاون الاقتصادي والتبادل الثقافي.

وبما أن ثقل مصر السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي يعزز من الوسطية العربية، فإنه يمكن للقاهرة أن تتمتع بنفوذ غير تصادمي في مواجهة النفوذ الإيراني، وهو ما يوفر مساحة لإقامة علاقات صحية بين إيران والعالم العربي.

وتواجه مصر مجموعة من التحديات، المختلفة والتي لا تقل أهمية، في علاقتها بتركيا. وفي سياق أوسع، تلعب تركيا دورا أكثر قوة في الشأن الإقليمي، مثل مشاركتها الوثيقة في القضية الفلسطينية والأزمة السورية، علاوة على دورها كوسيط في المفاوضات الغربية مع إيران. وفي الحقيقة، هناك نوع من التنافس بين تركيا ومصر من عدة جوانب. ومع ذلك، دائما ما يقع نطاق تحرك مصر الطبيعي في العالم العربي، في حين يتركز الدور التركي في أوروبا وعلى هامش ومحيط الشؤون المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، وعلى هذا الأساس يتعين على مصر وتركيا أن تعملا على إتمام وتدعيم سياسات بعضهما البعض في الشرق الأوسط وبين البلدان الأخرى ذات الأغلبية المسلمة.

ويجب على مصر أيضا أن تسعى لجذب القوى الناشئة خارج المنطقة، ولا سيما دول مجموعة «البريكس» التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، والتي باتت سياستها الخارجية تتمتع بثقل كبير نتيجة نفوذها الاقتصادي والاستراتيجي المتنامي. ويجب على وزارة الخارجية المصرية أن تعمل على تحديد الدول الأخرى التي ستلعب دورا رئيسيا في المستقبل وتسعى إلى تعزيز العلاقات معها.

أما آخر علاقة، وربما أهمها، في تلك الدائرة فهي العلاقة بين الحكومة المدنية الجديدة في مصر والولايات المتحدة، وهي العلاقة التي أصبحت مثار كثير من القلق والتكهنات.

إنني لا أرى أي تحول كارثي في العلاقات المصرية - الأميركية، التي أعتقد أنها ستبقى ذات أهمية قصوى لكلا البلدين، على الرغم من احتمال قيام بعض الحكومات في أي من البلدين في المستقبل بالإضرار بتلك العلاقة عن عمد. ومع ذلك، هناك حاجة ماسة إلى تطوير العلاقات السياسية وتعزيز الثقة بين البلدين، نظرا للتغيرات التي تحدث في مصر والعالم العربي. لقد كان الرضا عن الذات بمثابة ترف ناتج عن حالة الألفة التي كانت موجودة لدى كلا الجانبين في معاملاتهما مع بعضهما البعض، وهو ما أضاع عليهما فرصا قيمة لمزيد من التعاون.

وقد انعكست العلاقة المصرية - الإسرائيلية، على وجه التحديد، على إمكانية تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة في المجالات الرئيسية الأخرى في كثير من الأحيان، كما أدى التركيز الشديد على إسرائيل إلى قيام البعض بوصف العلاقات المصرية - الأميركية بأنها علاقات ثلاثية وليست ثنائية لأنها تشمل إسرائيل بالطبع، وهو وصف ليس خاطئا في حقيقة الأمر.

وفي الواقع، تملك مصر الكثير لتقدمه للولايات المتحدة، فهي المركز الرئيسي للاستقرار الإقليمي، وشريك في الحفاظ على الأمن البحري في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ودولة رائدة في أفريقيا والعالم العربي، ولذا فإن العلاقات الجيدة مع دول مثل مصر تمثل أهمية قصوى للقوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة. وفي المقابل، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ لا مثيل له على المستوى الدولي ويمكن أن تقدم دعما قيما لمصر لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، سواء في الداخل أو الخارج. والحقيقة هي أن كلا البلدين بحاجة إلى بعضهما البعض. ومع ذلك، يتعين على كلا الطرفين أن يقوما بإدارة العلاقات الثنائية بشكل أكثر ذكاء إذا ما كانا يريدان أن تتوافق هذه الشراكة الاستراتيجية مع التغييرات التي تجتاح مصر والمنطقة ككل. إن ظهور حكومة تمثيلية في مصر يوجب على هذه العلاقة أن تضع في الاعتبار المصالح العامة المصرية على المدى القصير والملفات الحساسة الأخرى.

وثمة دائرة أخرى تتعلق بالعلاقات المهمة، وغير الملحة، مع الدول غير الإقليمية التي تشكل معا ما يسمى بـ«المجتمع الدولي». وفي عالم مترابط ومتداخل بشكل معقد، ينبغي أن تكون المشاركة الوثيقة في تطور النظم الدولية للقانون والحكم جزءا حيويا وضروريا من سياسة مصر الخارجية. وينبغي أن يعمل هذا على معالجة المصالح المتبادلة والعميقة التي تشترك فيها مصر مع غيرها من أعضاء المجتمع الدولي فيما يتعلق بعمل النظام الدولي بشكل سليم ومناسب. ويمكن لمصر أن تدعو لمراجعة ميثاق الأمم المتحدة أو تلعب دورا أكثر فعالية ونشاطا في التوصل لاتفاقيات لحماية البيئة، وجهود التنمية المستدامة، وقواعد التجارة التي تكون أكثر إنصافا للأسواق الصغيرة والمتوسطة الحجم، والأنظمة النقدية، أو تطوير الأمن الدولي وقوانين نزع التسلح.

والشيء الأكثر أهمية هو أنه ينبغي على مصر تصحيح وضعها لكي تستعيد، بشكل تدريجي، مكانتها الأخلاقية والدبلوماسية التي فقدتها لنصف قرن من الزمان، على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، وتكون على استعداد لتحمل المسؤوليات والالتزامات التي تأتي مع القيادة.

ويجب أن تكون السياسة الخارجية لمصر نابعة من الضمير والمبدأ، لا من تفخيم الذات بصورة متهورة. وحتى ترتقي مصر لمكانة القيادة، يتعين عليها أن تضع مجموعة قوية واستباقية من السياسات التي تقوم على تحديد واضح لمصالحها الإقليمية والاستراتيجية. ويجب أن تكون مصر مستقلة، ولكن غير منعزلة، قوية ولكن غير قمعية. ومن الحكمة أن نتعلم من دروس الماضي وأن نرى الطريق من خلال التحديات والفرص في المستقبل.

* عميد كلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأميركية في القاهرة. شغل منصب سفير مصر لدى الولايات المتحدة خلال الفترة بين عامي 1999 و2008، ومبعوثا إلى اليابان بين عامي 1997 و1999.

* بالاتفاق مع مجلة «كايرو ريفيو أوف غلوبال أفيرز» (www.thecairoreview.com).